في مثل هذه الأيام قبل تسعة عشر عاما انتهت حرب تحرير الكويت. استعادت الكويت حريتها بفضل تضامن شعبها مع نفسه أولا وتماسكه في مواجهة الاحتلال ورفضه التعاطي مع سلطاته ومع ممثليه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. ما لعب دورا أساسيا في الوصول إلي يوم التحرير، تحرك العالم لدعم الكويت بعدما اكتشف أن شعبها يرفض الاحتلال رفضا قاطعا وأن العائلة الحاكمة ممثلة وقتذاك في الأمير الشيخ جابر الأحمد وولي العهد الشيخ سعد العبدالله- رحمهما الله، ووزير الخارجية الشيخ صباح الأحمد، الأمير الحالي، علي استعداد لبذل الغالي والرخيص من أجل الكويت وشعبها ومن أجل استعادة الحرية والسيادة والاستقلال والرفاه لمواطني الدولة. تميزت تلك المرحلة بتحرك دبلوماسي وسياسي دءوب شمل كل العالم تقريبا اوصل الي تشكيل ذلك التحالف الدولي الواسع الذي استطاع طرد جيش صدّام حسين من الكويت وإعادتها إلي أهلها. الآن بعد عقدين علي الذكري المؤلمة، ذكري الاحتلال الذي بدأ في الثاني من اغسطس 1990 وذكري أخري مفرحة هي ذكري التحرير الذي اكتمل في فبراير 1991، يمكن الخروج ببعض الخلاصات التي قد تكون مفيدة في أيامنا هذه. في مقدمة هذه الخلاصات، التي هي دروس أكثر من أي شيء آخر، أن الدول المتوسطة الحجم لا تستطيع أن تلعب ادوارا اكبر من تلك المسموح لها بأن تلعبها. وعندما تتجاوز هذه الدول حدودا معينة، يأتي من يذكرها بحجمها الحقيقي. تخيل صدّام حسين في مرحلة معينة أن لديه دورا إقليميا، خصوصا بعدما خاض حربا مع إيران استمرّت ثماني سنوات انهكت البلدين كما انهكت اقتصاديات دول الخليج العربي. لم يستطع الديكتاتور العراقي، حتي لحظة شنقه، استيعاب أن هناك فارقا بين الدور والوظيفة. لم يفهم أنه كانت لديه وظيفة في مرحلة معينة وأنه ليس صاحب دور في منطقة حساسة مثل منطقة الخليج. دفع صدّام بكل بساطة ثمن جهله للواقعين الإقليمي والعالمي وعدم قدرته علي التعاطي معهما، ما كان ينطبق علي صدّام في مرحلة معينة ينطبق حاليا، بحدود معينة، علي النظام في إيران وأنظمة أخري في الشرق الأوسط مع فارق، لا مفر من الاعتراف به، هو أن النظام الإيراني أكثر دهاء من النظام العائلي - البعثي الذي أقامه صدّام في العراق واستمر حتي العام 2003 . ولكن ما لابدّ من ملاحظته في الوقت ذاته أن هناك اوجه شبه بين النظام المذكور والنظام العراقي السابق. من بين أوجه الشبه السعي إلي لعب دور علي الصعيد الإقليمي من جهة ورفض الانصراف إلي معالجة المشاكل الداخلية للبلدين من جهة أخري. إنها عملية هروب مستمرة إلي الأمام كأن البحث عن دور في الخارج، خصوصا علي الصعيد الإقليمي، يلغي المشاكل الداخلية لبلد ما أو يطغي عليها... علي الصعيد الإقليمي، تغيرت أمور كثيرة في المنطقة ولكن ذهنية البحث عن دور إقليمي ما زالت حاضرة للأسف الشديد لدي البعض. أما علي الصعيد الكويتي نفسه، فما يبدو لافتا بعد عقدين علي الاحتلال وتسعة عشر عاما علي التحرير، أن الكويت تعلّمت، خلافا لما يعتقده كثيرون، من التجربة المرة التي مرّت بها. بكلام أوضح، استطاعت الكويت التغلب علي كل ما له علاقة بالحقد والضغينة، علي الرغم من كل ما تعرضت له، وانفتحت علي العراق في مرحلة ما بعد سقوط صدّام ونظامه وذلك علي الرغم من أن الوضع فيه لم يستقر بعد. ما هو لافت أيضا أن الكويت اثبتت انها دولة متحضرة وذلك من خلال طريقة تعاطيها مع آثار الغزو. الكويت تنفذ حاليا مشاريع في العراق وتساهم في دعم برامج ذات علاقة بالكهرباء والماء وتساعد في بناء منازل لعراقيين علي الحدود حتي يشعر هؤلاء بالأمان والاستقرار. أكثر من ذلك، هناك آلاف من الكويتيين يزورون العراق متحدين الأوضاع الأمنية فيه وهناك عشرات المشاريع الصغيرة لكويتيين في النجف وكربلاء وبعض المشاريع المهمة في بغداد والبصرة. أكثر من ذلك، هناك في الاجتماعات الدولية توافق في معظم الاحيان بين الدبلوماسية العراقية التي يمثلها وزير الخارجية هوشيار زيباري والدبلوماسية الكويتية التي يمثلها الشيخ محمد الصباح نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية. تجاوزت الكويت عقدة العراق. هناك في الكويت حس وطني بأن استقرار العراق جزء من الاستثمار الحقيقي في مستقبل الكويت وأجيالها الصاعدة. باختصار، باتت هناك قناعة في الكويت بأن تطور التجربة الديمقراطية في العراق مصلحة كويتية. لو كان في العراق برلمان منتخب في العام 1990، هل كان تجرؤ صدّام علي ارتكاب جريمة احتلال الكويت التي أعادت العرب جميعا سنوات طويلة إلي الخلف؟ بعد فترة من الجمود، حتي لا نقول الشلل، في مرحلة ما بعد التحرير، بدت الكويت وكأنها لا تزال تحت تأثير الصدمة التي تعرضت لها. الآن، تغير كل شيء. تكفي نظرة إلي وسط المدينة وناطحات السحاب فيه للتأكد من أن الكويت ورشة كبيرة وأنها علي تواصل مع المستقبل وأن سياسة الانفتاح التي أرساها الشيخ صباح الأحمد تتجاوز الإعمار وإعادة البناء إلي السياسة والاقتصاد وذلك من منطلق ضرورة الانفتاح علي الجميع استنادا إلي المصالح المتبادلة. عبارة "دول الضد ودول المع" صارت من الماضي. ما يؤكد ذلك، أن أمير الكويت يعمل حاليا بشكل متواصل علي اتمام المصالحات العربية. إنه ملف معقد بدأ البحث فيه في الغرف المغلقة علي هامش القمة الاقتصادية التي استضافتها الكويت قبل ثلاثة عشر شهرا. في منطقة تبدو مقبلة علي أحداث كبيرة، تبدو الكويت وكأنها تعلمت الكثير من تجارب الماضي القريب ومن الظلم الذي تعرضت له علي يد جار جاهل. هل من يريد أن يتعلم أيضا من هذه التجارب، أم هناك من يريد تكرار تجربة صدّام ونظامه معتقدا أن هناك أدورا تنتظره عند كل زاوية من زوايا منطقة الخليج والشرق الأوسط؟