البلدي يؤكل ولو بعد حين أي والله حيث إنه يرتبط بالموروث الثقافي في هذا الوطن البلدي هو الأصل في كل طعام وشراب بل وفي كل دواء وأزياء سواء كانت الأزياء الداخلية والخارجية الصيفية أو الشتوية وفي كل الظروف والملابسات الخاصة والعامة حتي في المناسبات الأسرية والاجتماعية الدينية أو الاحتفالية والبلدي هنا هو كل شيء وطني في الأساس وكل ما هو مصري المنشأ أو قبلته الأعراف والأذواق المصرية بعد توطنه بين الناس البلدي هنا يتجاوز حدود الطعام والشراب ويحتوي علي الأزياء والأشياء من قبيل ما يصنع في مصر من زمن بعيد تعارفت عليه غالبية طبقات الشعب وقبلته شكلا وموضوعا بل وينتشر بين عامة الناس في كل زمان ومكان وهنا أقول أن البلدي لا يخرج عن كونه كل ما هو وطني أي بعبارة أخري أن هذا البلدي يؤكل بكفاءة كل لحظة وفي كل اتجاه وعلي كل شكل!! شخصياً أنحاز لكل ما هو شرقي عربي وطني وتحديدا لكل ما هو مصري البلدي يؤكل وبطريقة خاصة مميزة جلوسا علي الأرض حول مائدة خشبية مستديرة ذات قوائم قصيرة تتسع لعدد محدود من الآكلين وتسمي الطبلية باللغة العامية والتي انتقلت إلي اللغتين الإنجليزية والفرنسية وهي أحيانا ما تكون مربعة أو مستطيلة ويا حبذا لو ارتدي الجميع الزي البلدي أيضا كلنا نري يوميا عربات الفول في كل شوارع ومناطق القاهرة والإسكندرية وغيرها والتي يتحلق حولها أهلنا من المصريين يتناولون الإفطار أو الغداء بكل الود والحنان وفي حدود الميزانية المتاحة لهم! بل هناك أيضا عربات تقدم وجبة الكشري للمارة بتكلفة معقولة لذوي الدخول التي لا تتعدي أصابع اليد الواحدة من الجنيهات كما أن بائعي البليلة الساخنة هم من المنافسين لهؤلاء في استدارج المارة من محدودي الدخل كي يكون هناك بعض التوازن في نوعية الأكلات الشعبية المصرية المعروفة من الملاحظ أيضا أن معظم أبناء الرعيل القديم من أهل مصر أي ذوي الأعمار ما بين 50 و75 عاماً يستسيغون الأطعمة الشعبية القديمة والتي هي من الموروث الحضاري للمطبخ المصري ويبحثون عنها في حواديت المواصلات والمقاهي يتحدثون مثلا عن أكلة الكوارع والفتة وعن المنابر أو الممبار والطحال والقشة والكرش عن اللسان والحلويات وعن الكبد والكلاوي وعن السجق ولحمة الرأس بل يبالغون في وصف محاسن كل من تلك الأصناف ويتحدثون عنها بكل وجد وصبابة ويذهب الكثيرون للمطاعم المتخصصة في تلك الوجبات ومعظمها يوجد في المناطق الشعبية القديمة أشهرها حي الحسين وحي السيدة زينب وجزء من حي شبرا وباب الشعرية والفجالة وحول الأضرحة الشهيرة في القاهرة والإسكندرية وبقية مدن مصر. علي سبيل المثال كذلك تلك الأغذية المصنوعة من الطحين الوارد من القمح المصري بها عدد من الأنواع التي يحبها أهل المحروسة منها علي سبيل المثال الكسكسي الذي يفضله أهل مصر في الإفطار مضافا إليه اللبن والسمن والسكر علي عكس دولة المنشأ في غرب مصر مثل ليبيا وما يجاورها غربا حيث يتناولونه علي الغذاء مضافا إليه السمن والمرق والهبر "جمع هبرة" كما يحبون تناول القادوسية وبعض الأصناف المصرية القديمة التي اندثرت من البيوت بعد فقدان الطحين المنتج من القمح ومنها علي سبيل التذكار الشعرية والمحمصية والمصرودة وهذه المسميات أشك كثيراً في وجودها هذه الأيام بل وفي معرفة الأجيال الحالية بها من الأصل وربما نري بعضا منها في المتحف المصري؟! بل أن الهجوم المنظم الذي نتعرض له في هوية هذا الوطن يبدأ من محاولات استبدال الأطعمة البلدية المصرية الموروثة مثل الفول والطعمية والكشري وإحلال كل هذا بما يطلق عليه الهامبورجر والهوت دوج والسوسيس وكل ما هو في نطاق الوجبات الغربية السريعة والتي هي من قبيل منافسات سوق الطعام وللعلم البلدي يؤكل وبشراهة عندما يكون بدون مقابل أي وجبة مجانية ويحدث هذا في صحن مسجد السيدة زينب رضي الله عنها حين يقوم أحدهم بتقديم النذر المستحق عليه وتتراوح تلك الوجبة ما بين الفول النابت أو المستنبت وبين هراديم اللحم فوق الأرز الذي يعلو علي الفتة؟! وقد تكون الوجبة المجانية صواني الأرز باللبن والأكل بالأيدي العارية يتحلق أصحابها حولها مع صيحات المريدين في سيدنا الحسين أو أي مسجد من مساجد آل البيت وقتها تحل البركات مع الدعوات كذلك يؤكل البلدي بنهم علي موائد الرحمن في شهر رمضان في معظم مناطق المدن أما في الريف فيظهر التمعن في الأكل البلدي في ولائم الأفراح ومآدب العزاء التي تنعقد علي فترات متقاربة في كل قرية من قري الريف المصري ومن المؤكد لدي كل طوائف الشعب المصري أنه دائم الحنين لتلك الأكلات البلدية الشعبية سواء علي المستوي الأسري أو المجتمعي كما ألمحت ذات مرة في مقال سابق عن ذكريات شهر رمضان. إنني أعتقد أن الغزو الثقافي لأي وطن يبدأ من الفم تماماً مثل مقولة الطريق إلي قلب الرجل معدته؟! ولذلك مازالت محاولات الغزو عن طريق الأطعمة وارداً منها مثلا البيتزا الإيطالية والهامبورجر الأمريكي كلاهما توغل في باطن جميع الدول في الشرق والغرب دخل الغزو من أبواب المطاعم ذات المنتج المتشابه في كل مكان بالمواصفات التي يحددها الكود الإيطالي أو الأمريكي ولقد بدأت المنافسة بين الجميع طبقا للعلامة التجارية لكل صنف ووصل الأمر إلي غزو الصين واليابان والهند مع دول أمريكا اللاتينية تماما مثل أنواع السجاير من الصعب محاربتها؟! المهم أننا في مصر لدينا الساحة متاحة للجميع حتي المطاعم الصينية واليابانية ولم ألحظ بعد المطاعم الأندونيسية وأن كنت دخلتها في السعودية!! ولقد أدت المنافسة بين الأكلات الشعبية المحلية وبين المستورد إلي كثير من المناقشات العلنية بين الدول المختلفة حدث هذا في الصين واليابان من قبل عندما تعرضت بلادهم لهجمات محلات الهامبورجر كذلك في بعض بلدان أوروبا وأفريقيا وما زال الحوار دائرا حول هذه القضية باعتبارها خرجت من إطار المنافسة إلي إطار الغزو الثقافي الأجنبي من الخارج.