يمكنه التعبير عن مبدأ كومة القش بالقول الآتي: لا كومة قش دون إبرة. وما يتلو هذا المبدأ هو واضح، وما هو واضح، يفهم دون تفسير. من أين تأتي هذه السهولة؟ تأتي من كون ذهنه يباشر دائماً البحث عن الإبرة التي تجعل ما يصادفه علي ما هو عليه، وما يصادفه دائماً ليس بالضرورة كومة قش، لكنَّ المبدأ عنده ثابت، فحتي إذا لم توجد كومة قش، فهو يبحث دائماً عن الإبرة، وكلما تعمَّق في البحث، وجد نفسه في طريق لأصلٍ ما. يرن المبدأ في أذنه: لا كومة قش دون إبرة. وعلي الرغم من إيجاز الصياغة، فلم تُحدث في نفسه تأثيراً، لأن علاقته بما هو قريب منه كانت باردة، ودون حياة، فكلما اقتربتْ الأشياء منه، طال الطريق إليها، وتعثَّر في بلوغها. قال في نفسه بقسوة: ما الداعي للقلق أمام حكم فارغ مثل مبدأ كومة القش؟ هناك نفيان يساويان تأكيداً. هل يستطيع التحقق من أن كل كومة قش بها إبرة؟ فلكي يقوم بهذا عليه أن يستحضر كل كومات القش في كل مكان وزمان، ليعاين كيفية احتواء كل منها علي إبرة، ومثل هذه المعاينة مستحيلة، فهو حتي علي مستوي الواقع لم يقم بمعاينة واحدة، وكل ما هنالك أنه استخلص المبدأ من قول سائر. كانت الصياغة الصحيحة المُفْتَرَضَة هي الآتي: كل كومة قش، بقدر توفُّر مُعاينتها، لها إبرة. تراجع بمرفقيه عن كورنيش شرفة عقله خوفاً من السقوط، وقال: لكنْ ما يثبته المبدأ يثبته دون استثناء، فليس مبدأ كومة القش قضية أو قاعدة، وما يطرحه المبدأ يطرحه بوصفه ضرورياً، وما هو ضروري يعتبر مُقدَّراً، وذلك بواسطة النفي المزدوج: لا كومة قش دون إبرة. الفلسفة أمام مثل هذه المبادئ تلجأ إلي البداهة، لكنْ لا يمكن لأحدٍ أن يخاطر، ويدَّعي أن مبدأ كومة القش، هو بديهي بصورة مباشرة وكاملة، فلكي يكون شيء ما بديهياً، أي مضيئاً، يجب عليه أولاً أن يلمع في نور، ذلك أن وجود النور هو شرط البداهة الحاسم، فمن خلال أي من الأنوار يظهر مبدأ كومة القش بديهياً؟ وإذا كنا نراه، أفليس خطراً أن نُحدِّق فيه؟ هناك ما يشبه النكتة، وهي تصلح لتمثيل مبدأ كومة القش. أضاع رجل شيئاً في مكان مُظلم، وظل يبحث عنه دون فائدة، فقال له رجل ثان مُشيراً بيده إلي مكان آخر مضيء: تعال نبحث في النور بدلاً من الظلمة. إن تناقض عملية البحث لا لبس فيها، وما يكون متناقضاً بذاته، لا يمكن أن يوجد، أي أن يكون المتناقض ممتنع الوجود، فإذا أردنا في أي مكان أو زمان أن نبلغ ما يمكن أن يوجد أو ما هو موجود في الواقع، فلا بد لنا من تجنب التناقضات، إلا أن هيجل لديه كتاب منذ ما يقرب من مئتي سنة، اسمه علم المنطق، وهو يعلمنا فيه أن التناقض لا يشكِّل عائقاً يحول دون وجود الشيء في الواقع، بل إن التناقض هو بالأحري الحياة الباطنية لواقعية الأشياء، وعند كيركيجارد يتم التغلب علي التناقض، واللا معقول عبر قفزة الإيمان التي تداوي عثرة الإيمان، ويقال إن القفزة الإيمانية استوحاها كيركيجارد من طريقة سيره، فقد كان يمشي قافزاً لخللٍ ما في ساقيه. لم يبق لي شيء تقريباً، لا الشيء، ولا وجوده، ولا وجودي، ولا الغرض الصرف، لا اهتمام من أي نوع بأي شيء، ومع ذلك أبحثُ، وما زال هذا بلا ريب اهتماماً بالوجود، لا بحث يثير اهتمامي، حتي الذي يساوي أهمية البحث عنه، المتعة التي آخذها من عملية البحث لا آخذها، بل أعيدها كما أخذتها، أتلقي ما أعيده، آخذ ما أتلقي، لا لكومة القش دون إبرة، ولا للإبرة دون كومة قش. كان سقوطه من علي كورنيش شرفة عقله فضيحةً لكل مَنْ تسوّل له نفسه دراسة هيدجر ودريدا. [email protected]