احتفلت مكتبة الإسكندرية بسبعينية الشاعر الراحل أمل دنقل، التي شارك فيها نقاد وشعراء وفنانون وموسيقيون، استعادوا خلالها ذكرياتهم مع أمل وشعره، بالإضافة لشهادات لعدد من شعراء جيل الثمانينيات، الذين اقتصرت معرفتهم بأمل علي إبداعه، وشهادات مهمة لرفاق دربه من أسرته وأصدقائه الذين تحدثوا عن أمل الزوج والشقيق والصديق والتلميذ، وهي المرة الأولي من نوعها التي يتم فيها الاحتفال بسبعينية أحد المبدعين بعد رحيله. وهو ما أكده المايسترو شريف محيي الدين، مدير مركز الفنون بالمكتبة قائلأ: ربما تكون هذه الاحتفالية هي المرة الأولي التي يحتفل فيها بالعيد السبعيني لميلاد شاعر راحل، وليس الاحتفال بذكري رحيله كما جرت العادة، لكننا حين فكرنا في الاحتفال بأمل رأينا أن أمل لا يزال حيا بيننا، وهذا ما منحنا الحق في مخالفة العادة والاحتفال به بعد رحيله. وأضاف محيي الدين ك كان أمل أستاذا لأجيال من الشعراء الشباب بعده، لكنه كان تلميذا للشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي، الذي لا يمكنني تقديمه لأنه غني عن أي تقديم أو تعريف؛ هذا الأستاذ الذي أعلن أن أمل هو تلميذه الوحيد؛ بينما كان أمل في بدايته شديد التأثر به: شعرًا وفكرًا وروحًا للدرجة التي جعلته يهدي ديوانه الأول لأستاذه حجازي معترفًا له بأنه الذي علّمَه لون الحرف، وهذا اعتراف يندر أن يعترف به شاعر لشاعر؛ وهو يجلو لنا جانبًا إنسانيا مهمًّا لأمل، وجانبًا جديدًا لمعني الريادة الشعرية الحقيقية التي كان شاعرنا حجازي أحد أهم أركانها في الشعر العربي الحديث. وأكد المايسترو أن الفن الحقيقي لا يتجزأ، بل يتكامل ويجدد شبابه الدائم بالفرار من قالبه التقليدي متخذًا لنفسه تجليات وأبعادًا فنية أكثر تنوعًا؛ وذلك بالاتكاء علي ما هو جوهري في التجربة الفنية من النفوذ الثاقب إلي عمق التجربة الإنسانية في مستوياتها الشاملة ومنتجها الفكري والثقافي قديمًا وحديثًا، مما يسمح لها باقتحام مناطق ومساحات فنية متنوعة. قال الشاعر فؤاد طمان: ستظل أعمال أمل باقية ما بقي الشعر، فتجربته كان لها خصوصيتها الإبداعية وكانت له قدرة استثنائية علي صهر المتناقضات، ونجح في التعبير عن الإنسان المصري وواقعه ليشمل بذلك معاناة الإنسان في كل زمان ومكان.. وتحدث الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي عن تجربة أمل الشعرية، وقال مشيراً إلي أنها بلورة لكل ما قرأ وتعلم في تراث الفن: أجده اهتم بموضوعات اهتممت بها، لكنه أبدع فيها إبداعا خاصاً لا يمكن أن يكون ثمرة التقليد والتلمذة، فأقرأ قصائده عن القاهرة أو الإسكندرية فأحسده، وكنت أتمني لو أنني كتبت هذه القصائد. وألمح حجازي أن دنقل كان شديد الاهتمام بالتفاصيل في شعره رغم أن هناك تيارا في النقد كان يكره الحديث عن تفاصيل الواقع، باعتبار أن الشعر يتحدث عن الكليات وليس الجزئيات، لكنه استحضر كل التفاصيل بل استحضر حتي الماضي والحاضر، ووجه حديثه للحاضرين قائلاً: لا تصدقوا كذابين يقولون أن الشاعر يمكن أن ينسلخ عن تراث لغته، هؤلاء كذابون. وقال الناقد أحمد درويش متحدثا عن تجربته دنقل الشعرية: العظماء حين يرحلون لا يرحلون عنا بقدر ما يرحلون فينا، لأن ما غرسوه يبقي ظل لنا، ويصب في عقولنا، ونصبح جزءا من الأسئلة التي طرحوها، فأمل لم يكن يخاف الموت، كان يدرك أن كفة الشاعر في الموازين أثقل من الموت. وأضاف: كان الوحيد الذي أحدث توازنا بين الإطلاق والتقييد، كما خطت تجربة أمل دنقل خطوات مهمة بالنسبة لشاعرية التصوير جعلت قصيدته تقف في مرحلة وسط بين التأملية والسردية، فقد أتاحت متعة رأسية وأفقية في آن واحد.. وذهب درويش إلي أن قصائد أمل دنقل كانت حداثية، وانتقد تراجع الشعر بصفة عامة وتدهور مكانته، فلم تعد القصائد تحتل الصفحات الأولي من الجرائد اليومية، كما أن الشعراء يعتصمون بعالمهم الخاص راضين أو غير راضين تاركين الساحة للشعراء الخطابيين. بدأت الجلسة الثانية للشهادات بشهادة لأنس دنقل، الذي كشف وجها آخر لأمل يتصل بعلاقته مع بعض الأدباء والفنانين، حيث كان يكره هذه الحساسية الزائفة التي يدعيها بعض الأدباء والشعراء، وكان يؤمن بالترابط والتساوي، وأن دور الشاعر لا يختلف عن دور العامل في مصنعه والفلاح في مزرعته، وكان يحب كل الأصدقاء الصادقين حتي ولو كانوا ضعفاء. وأضاف قائلاً: أما الجانب الآخر الذي يبرز في شخصية أمل فهو التمرد علي كل أشكال السلطة والقمع، ويمكن أن نرجع ذلك إلي ظاهرة اليتم، ورفض أمل سلطان العائلة، وترتب علي هذا التمرد كراهية عميقة للضعف والشكوي وطلباً للقوة وهو ما نراه في شعره. وانتقد إهمال النقاد للعديد من الجوانب المضيئة في شعر أمل، وعدم تناولها بالتحليل والدراسة، حيث تقطع كل الدراسات جذوره في الصعيد معتبرين أن مواقف أمل السياسية مختلفة عن مواقفه الاجتماعية والشخصية، رغم أن تعبيره عن الواقع السياسي هو تعبير عن ذاته. وصف الشعر عبد العزيز موافي أمل بأنه مزيج من الأشياء والصفات المتناقضة وكان يبدو شرساً لكنه يملك قلب عصفور وبسمة طفل، كان يمتلك حساً نقدياً ربما لم يظهر لكنه وعياً نقدياً عالياً، وكان يري أن الموهبة لا تصنع الشاعر لكن ما يصنعه هو ثقافة الشاعر، فهي التي تحدد رؤيته. أما الشاعر علاء خالد، فكانت شهادته من خلال قراءته لأعمال الشاعر أمل دنقل، وقال: تعرفت علي قصائد أمل في المرحلة الجامعية، في سنوات كان الفكر الديني هو المسيطر، كانت قصائده مزيجا من المواجهة الشعرية للحظة السياسية وفي نفس الوقت مرجع تاريخي عربي، وكنت أري في شعر أمل موهبة خاصة، وقدرة علي الارتجال الشعري. وأضاف لقد كان شعر أمل جزءاً من اللحظة التاريخية، سريع التحول والتبني والتمثل من سياقات اجتماعية وثقافية، ويحتوي بداخله ما يوحده مع الذاكرة الجماعية، لحظة الشفاهة هي لحظة فرح عارم بالتعاضد، وشعر أمل دنقل كان يقف، مع غيره وراء هذا الفرح. وقدم الشاعر السكندري حميدة عبد الله ورقة بعنوان الجنوبي وأسئلة الشعر وأسئلة التاريخ قال فيها: أري أنه شاعر عصي علي التصنيف، فقد جمع في مشروعه كل المتناقضات وجعلها كلاً متماسكاً، وهو الشاعر الذي كان صوت المشروع القومي. . ومن جانبها أبدت زوجته الأستاذة عبلة الرويني سعادتها باحتفال مكتبة الإسكندرية بميلاد الشاعر، الذي حسبما ذكرت لم يحتفل بعيد ميلاده سوي مرة واحدة وأخيرة، فلم يعرف هذا الطقس الاجتماعي إلا من خلال جابر عصفور حينما أصر أن يحتفل بعيد ميلاده وأخذه في سيارته ليتجول في شوارع القاهرة في وقت اشتد عليه المرض، كان هذا الاحتفال أول وآخر احتفال. وأكملت: كان يحتفل بميلاد القصيدة، فقد كان من المعتدين بموهبتهم لكنه لم يحب قراءة أشعاره، وفي أوقات كثيرة كان يقرأ أشعار حجازي وعبد الصبور ويستعرض ذاكرته الحديدية. واستطردت: لم يشغل أمل نفسه عن كتابه الشعر بأي شيء آخر حتي كتابه النثر، فكانت له مقالات معدودة، هي أربع مقالات عن أسباب نزول القرآن، وواحدة عن صلاح عبد الصبور، وواحدة عن عبد المعطي حجازي.. وقالت: لم يكن لأمل منزل وكان يتنقل بين منازل أصدقائه، وبالتالي لم تكن لديه مكتبه لكن كانت هناك أربعة كتب تلازمه، منها القرآن الكريم، كان يقرأ التاريخ وكانت تلك أهم قراءاته.. عقب ذلك، عقدت جلسة بعنوان: شهادة الشعراء الشباب، والتي شارك فيها عبد الرحيم يوسف وصالح أحمد وحمدي زيدان، وأدارها الشاعر عمر حاذق.