من لا يملك قوته لا يملك قراره.. الخبز يأتي قبل الحرية.. شعارات طالما رفعت للدفاع عن امتناع الشعوب النامية عن المشاركة السياسية وقبول حكم أنظمة ديكتاتورية، ولكن ماذا عن الاحتلال؟ هل يمكن أن يتناسي شعب أنه يحتل أرض شعب آخر ويواصل حياته كيفما يشاء بحلوها ومرها رافعا شعار "أنا ومن بعدي الطوفان؟" يجادل يوني مندل الباحث الاسرائيلي بقسم الشرق الأوسط في جامعة كامبريدج البريطانية حول الجهة الاسرائيلية التي تتحمل مسئولية تعطيل عملية السلام، قائلا ان اليهود المتطرفين في اسرائيل ليسوا هم العقبة الأساسية بل الأغلبية الصامتة من الاسرائيليين التي لا تشعر أن الاحتلال يعنيها في شئ لأنها تعتقد أن هناك مشكلات في الحياة أهم من العيش في مخيمات أو اقامة الجدار العازل أو بناء مستوطنات وهي العثور علي وظيفة مناسبة براتب جيد وتربية الأطفال وغيرها من هموم الانسان في أي مكان. الطرح الذي جاء به الباحث الاسرائيلي في مقال بنشرة المشهد الاسرائيلي الصادرة عن المركز الفلسطيني للدراسات الاسرائيلية (مدار) يبدو غير منطقي، فقد كتب أن هؤلاء الاسرائيليين لا يكترثون لمصاعب احتلالهم وكأنه تم تخديرهم.. كيف ذلك وهم استوطنوا أرضا وطردوا أهلها منها ليأخذوا بيوتهم وتاريخهم وتراثهم فيؤسسوا دولة جديدة؟ كيف لا يهتمون بالاحتلال اذا ما فقد أحد منهم عزيزا لديه في عملية للمقاومة الفلسطينية؟ ألا يبحثون عن أسباب هذه العمليات حين تقع؟ ألا يهمهم أنهم يعيشون في بقعة جغرافية محاطة بكراهية من كل الجوار؟ ألا يلاحظون كل ذلك أم انه من السهل تجاهل هذه الحقائق والادعاء بأن همومهم هي هموم أي مواطن في العالم؟ كما أنه من البديهي أن هذه المشاكل الحياتية التي تحدث عنها الباحث والتي هي شغلهم الشاغل لم تكن لتظهر لولا أنهم قدموا إلي هذه الأرض واستوطنوها من البداية أي أن الاحتلال يسبق الحياة في الحالة الاسرائيلية... هذه اللامبالاة للغالبية الصامتة الصماء البكماء كما يسميها مندل هي أخطر من تطرف المتشددين أنفسهم لأنهم يرون ضرورة في الضغط من أجل السلام بالخروج في مظاهرات مثلا أو حتي تثقيف أنفسهم عن عواقب الاحتلال المتمثلة في المستوطنات أو الجدار أو الحواجز أو...التحليل النفسي الذي قدمه الباحث لهذه الحالة التي أصبح فيها الاحتلال غير مرئي بالنسبة لبعض الاسرائيليين، ينبع من أنهم عزلوا أنفسهم نفسيا وعمليا عن الاحتلال كما يقول فمثلا عندما يقومون برحلة من القدس إلي البحر الميت لا يفكر بأنه يسير في أرض محتلة. ويضيف الباحث أن الحكومة الاسرائيلية تعزز من هذه العزلة حيث انها لا تضع لافتات تقول ان هذه مناطق محتلة عسكريا، وهو بالطبع لن يحدث مطلقا كما انها تسمي المدن الفلسطينية مثل حيفا وعكا واللد والرملة ويافا (التي كانت بها نسبة قليلة جدا من اليهود قبل 48) مدنا مختلطة لتفادي استخدام أي مصطلحات قد تثير فكرة الاحتلال وللزعم بأنها دولة تعددية. بالطبع لا يبرر ذلك انفصام الكثير من الاسرائيليين الذين يحصدون الكراهية ويتم استهدافهم ولا يعرف الأمن طريقه إلي قلوبهم بسبب هذا الاحتلال الذي يعزلون أنفسهم عنه كما يقول مندل! .. لكنه يختتم مقاله بحكمة قوية قائلا "ان صحوة الاسرائيليين من غفلتهم وتغيير وعيهم القومي بالاعتراف بصوت عال بطرد الفلسطينيين من أراضيهم واحتلالهم عسكريا والاستفادة من وراء ذلك اقتصاديا واجتماعيا، سيؤدي إلي انفجار الفقاعة التي يعيش فيها الاسرائيليون منذ قيام الدولة. هذه الفقاعة توفر للاسرائيليين حياة ألفوها وأحبوها لا يشعرون فيها بمسئولية أو معضلة أخلاقية أو وخز ضمير ازاء الفلسطينيين. ولهذا فان التمسك بهذه الفقاعة صار في اسرائيل أمرا حيويا وغرضا قوميا من الدرجة الأولي".