ب«الرأسي والأفقي».. التضامن: ربط 2600 وحدة مميكنة ضمن منظومة الشكاوي لتقديم أفضل خدمة    بعد ارتفاعه.. سعر الريال السعودي اليوم الأربعاء 29-5-2024 مقابل الجنيه المصري في البنك الأهلي    «المشاط» تبحث مع وزير التنمية البريطاني التعاون بمجال الزراعة والأمن الغذائي    منها مبادرة الحزام والطريق.. السيسي ونظيره الصيني يشهدان توقيع اتفاقات تعاون    كريم فؤاد: كورونا سبب انضمامي للنادي الأهلي.. وهذه نصيحة معلول لي    «شمال سيناء الأزهرية» تستعد لاستقبال امتحانات الشهادة الثانوية    جمهور السينما يتجاهل أفلام بيومي فؤاد في دور العرض,, ما القصة؟    لماذا أسلم البروفيسور آرثر أليسون؟    محافظ الدقهلية يشهد استلام مليون و250 الف ذريعة سمكية من اسماك البلطي    بغداد بونجاح ينضم لصفوف الأهلي.. شوبير يكشف الحقيقة    ليكيب: مبابي لم يحصل على راتبه من باريس منذ شهر إبريل    لصرف معاشات شهر يونيو| بنك ناصر الاجتماعي يفتح أبوابه "استثنائيًا" السبت المقبل    مصرع شخص إثر حادث انقلاب موتوسيكل في الشرقية    تأجيل محاكمة 5 متهمين بخطف شاب في التجمع    "تعليم الجيزة" يكرم أعضاء المتابعة الفنية والتوجيهات وأعضاء القوافل المركزية    حريق يتسبب في تفحم محتويات شقة سكنية في منطقة الحوامدية    تحليل CNN: كشف المواقع والتفاصيل للغارة الإسرائيلية على مخيم النازحين الفلسطينيين    خبيرة فلك تبشر مواليد برج الدلو في 2024    جوتيريش يدين بشدة محاولة كوريا الشمالية إطلاق قمر صناعي عسكري    بالأسماء.. ننشر نتيجة الشهادة الإعدادية 2024 بمحافظة الوادي الجديد    جيش مصر قادر    «التعليم» تحقق في مزاعم تداول امتحانات الدبلومات الفنية 2024    سؤال برلماني بشأن آلية الدولة لحل أزمة نقص الدواء    كأس مصر، موعد مباراة الجيش وبورفؤاد والقناة الناقلة    ماجواير يستعد لمحادثات حاسمة مع مانشستر يونايتد    وزير الإسكان يبحث وضع خطة عاجلة لتعظيم دور الهيئة العامة للتنمية السياحية    رئيس جهاز 6 أكتوبر يتابع سير العمل بمحطة مياه الشرب وتوسعاتها    إدعى إصدار شهادات مُعتمدة.. «التعليم العالي» تغلق كيانًا وهميًا في الإسكندرية    ورش تدريب على ضوابط ترخيص البيوت الصغيرة لرعاية الأطفال في الدقهلية    رئيس جامعة حلوان يتفقد كلية التربية الرياضية بالهرم    الخارجية: مصر تلعب دورًا فاعلًا في عمليات حفظ السلام    اليوم.. انطلاق أول أفواج حج الجمعيات الأهلية    الجيش الإسرائيلي: مقتل 3 جنود وإصابة 10 في معارك رفح    وزيرة الهجرة تستقبل أحد أبناء الجالية المصرية في كندا    فرقة aespa ترد على رسائل شركة HYPE للتخلص منها    السبت | «متحف الحضارة» يحتفي برحلة العائلة المقدسة    مصطفى كامل يهنئ الدكتور رضا بدير لحصوله على جائزة الدولة التقديرية    لجنة القيد تحت التمرين.. بداية مشوار النجومية في عالم الصحافة    ارتفاع جماعي لمؤشرات البورصة بمستهل تعاملات اليوم الأربعاء    «السبكي» يستقبل رئيس «صحة النواب» في زيارة تفقدية لمستشفى شرم الشيخ الدولي    60% للشركة و25% للصيدلية، شعبة الأدوية تكشف حجم الاستفادة من زيادة أسعار الدواء    جامعة القاهرة: قرار بتعيين وكيل جديد لطب القاهرة والتأكيد على ضرورة زيادة القوافل الطبية    بعد ترميمه.. "الأعلى للآثار" يفتتح مسجد الطنبغا الماريداني بالدرب الأحمر    مقترح إسرائيلي جديد لحماس لعقد صفقة تبادل أسرى    توضيح حكومي بشأن تحويل الدعم السلعي إلى نقدي    وزارة الصحة تكشف المضاعفات الخطرة للولادات القيصرية غير المبررة.. انفوجراف    الخارجية الروسية تعلق على تصريح رئيس الدبلوماسية الأوروبية حول شرعية ضرب أراضيها    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 29-5-2024    صلاة الفجر من مسجد الكبير المتعال فى بورسعيد.. فيديو وصور    حج 2024| ما الفرق بين نيابة الرجل ونيابة المرأة في الحج؟    حج 2024| هل يجوز حلق المحرِم لنفسه أو لغيره بعد انتهاء المناسك؟    نصف شهر.. تعرف على الأجازات الرسمية خلال يونيو المقبل    فيديو ترويجي لشخصية إياد نصار في مسلسل مفترق طرق    «شمتانين فيه عشان مش بيلعب في الأهلي أو الزمالك»..أحمد عيد تعليقا على أزمة رمضان صبحي    بلاتر: كل دول العالم كانت سعيدة بتواجدي في رئاسة فيفا    واشنطن: هجوم رفح لن يؤثر في دعمنا العسكري لإسرائيل    رئيس رابطة الأنديةل قصواء: استكمال دوري كورونا تسبب في عدم انتظام مواعيد الدوري المصري حتى الآن    أحمد دياب: فوز الأهلى والزمالك بالبطولات الأفريقية سيعود بالخير على المنتخب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هيكل: مشهد سوريالي للتاريخ
نشر في روزاليوسف اليومية يوم 04 - 01 - 2010


سوء فهم للتاريخ وتشويه متعمد له:
يتابع هيكل أحاديثه قائلا: "أول حاجة أنا ها أحطها هأسيب علي جنب أن في هذه الفترة وضمن علاقتهم مع الملوك وضمن الكلام بتاع السيد الدوحة القرشية وأمير الأمراء وخاتمة مش عارف إيه ده كله في هذه الفترة أعطوا حاجتين مهمين جدا عملوا اتفاقية سايكس بيكو قسموهم كلهم ممالك صغيرة والحاجة الثانية أعطوا وعد بلفور أعطوا وطن قومي في وسط المنطقة دي كلها لليهود طيب كيف تعاملوا مع القضايا؟ كيف تعاملوا مع قضايانا إحنا كلنا رحنا في الحرب العالمية الأولي وقفنا جنبهم يعني مش جنبهم وقفنا أتحنا كل حاجة لهم والشعوب متصورة شيء والملوك متصورين شيء، الشعوب متصورة أن هم بعد الحرب ها يبقي فيه نوع من الاستقلال وفيه نوع من الوحدة بين هذه الأمة سواء كانت خلافة أم مش خلافة لكن المسائل عائمة ومائعة لكن الإنجليز والفرنساويين في هذه اللحظة عملوا حاجتين، عملوا أولا (كلمة غير مفهومة) اتفاق البوديه اللي هما بمقتضاه سنة 1904 قسموا المنطقة بينهم جاءوا علي الشهر اللي فات كانوا بيحتفلوا الدولتين بمرور مائة عام علي الوفاق الودي بين الدولتين لكن علي أي حال الوفاق الودي بين دولتين كي يصطلحوا علينا إحنا وإحنا مش دريانيين عملوا اتفاقية سايكس بيكو فرنسا وإنجلترا قسموا العالم العربي وإحنا مش دريانين أدوا وعد بلفور وإحنا مش دريانين.. ".
طبعا (مش دريانين) كنا ولا زلنا لا نعرف شيئا مما يدور حول أنفسنا ومما سيغدو عليه مستقبلنا.. إن مشكلتنا يا هيكل أننا نتصّور أن العرب كانوا في أفضل الأحوال وأزهي العهود وكانت لهم أقوي الإرادات.. وجاء الآخرون من إنجليز وفرنسيين وصنعوا بنا كل الأفاعيل! ببساطة أسألك يا صاحبي هيكل لو نصبناك زعيما عربيا في مطلع القرن العشرين، فماذا كنت ستفعل أكثر مما فعله الزعماء العرب وبالرغم من كل امكاناتهم الضعيفة عهد ذاك، فهل كنت ستحقق أمنيات الأجيال اللاحقة وأنت تعيش علي هامش التاريخ؟ إنني إذا كنت لا أضبط مسيرتك وأنت كاتب تضيع قارئك في تهويماتك وخيالاتك، فكيف يمكنني أن اطمئن علي مصير بلاد كاملة من المحتم انك ستضيعها في غضون ساعات !! وليس اليوم ببعيد عن الأمس يا هيكل، إذ لو قدّر وكنت واحدا من زعماء العرب عند فاتحة القرن الواحد والعشرين، فما الذي كنت ستفعله إزاء إرادة الاستقطاب العالمي وحاجتك اليومية له في كل ما يتصل بحياتك ومستقبلك؟ إن العرب وعلي مدي مائة سنة يبكون ويولولون علي سايكس بيكو وتقسيم الأمة العربية وعلي وعد بلفور.. من دون أن يفعلوا شيئا لأنفسهم.. فالخلل الأكبر مطلوب فضحه يا هيكل لا أن نلقي بكل فجائعنا علي الآخرين! إذا افترضنا أن العرب فشلوا علي أيام الاحتلال والاستعمار، فلماذا لم ينجحوا مرة واحدة علي أيام السيادة والاستقلال؟ ولماذا لم ينتصروا يوما علي أيام القومية العربية؟ لماذا تلونوا بين جيل وآخر من بحر متلاطم من الأفكار والسياسات؟ ألا تعتقدون معي بأن المشكلة في العرب أنفسهم وفي ذهنياتهم المتنوعة وفي انقساماتهم المريعة.. وفي حروبهم الإذاعية الباردة التي كانت ولم تزل تفصح عن مدي وشراسة أكل أحدهم للآخر.. وعن مدي نزق هذا تجاه ذاك كما يجري في أعماق اللاوعي بالرغم من الافاضة في الحب والمشاعر القومية !!
التعامل مع قضايانا:
يستطرد هيكل معلقا قائلا: "وبعدين تعال بقي نبص في الوثائق ونشوف كيف تعاملوا مع قضايانا؟ أنا الحقيقة يعني بأحس مش بس بأسي بأحس بإهانة أحس لما أشوف مثلا إيه؟ ألاقي هنا فيه أهمية ده فيه اعتقادي أنه ده أوراق لورانس.. لورانس ده كان ضابط المخابرات اللي تولي إدارة شئون العالم العربي تقريبا كله بعد الحرب العالمية الأولي فأوراقه.. أهم حاجة في أوراقه ماليش دعوة بيقول إيه هو لكن أنا بيهمني جداً تسجيله لمحاضر الجلسات وأوراقه في شرح ما جري أو في رواية ما جري لأنه كان موجود كتب محاضر بيقول إيه؟ بيقول مثلا علي سبيل المثال بيحكي عن اجتماع بين لورين جورج رئيس وزراء إنجلترا المنتصرة مع كليمنسور رئيس فرنسا المنتصرة والاثنين مجتمعين في ظرف مؤتمر الصلح في فرساي في باريس سنة 1919 كليمنسور بيقول لروين جورج بيقوله إيه؟ عايزين ننتهز الفرصة ونسوي بيننا بدل ما نروح في المؤتمر متخانقين أنت عايز إيه؟ قل لي أنت طلباتك إيه؟ فبيقوله إيه جورج لورين بيقوله العراق وفلسطين هو سأل كليمنسور قول لي أنت عاوز إيه ففرنسا فأخونا رئيس وزراء فرنسا بيقوله أنا عايز الموصل فجورج بيقوله ها تأخذها.. بتكلم عن أقاليم في العالم العربي بتكلم عن أوطان وبعدين يقوله إيه عندك حاجة ثانية يقوله آه عايز القدس، ده الإنجليزي بيقول للفرنساوي.. الفرنساوي بيسأله أنت عاوز إيه ثاني؟ قاله والله عايز القدس قاله خلاص ها تأخذ القدس، أنا.. ".
حقيقة تعرف تبّص يا هيكل في الوثائق.. ألا تعتقد بأنك متأخر في شعورك بالإهانة؟ إن كل جيل عربي يشعر بالإهانة ليس من توزيع الأوطان علي مائدة مؤتمر فرساي عام 1919، بل يشعر بالمرارة والذل وهو يري ويقرأ من أخذ يشعر بذلك بعد قرابة تسعين سنة! بعد تسعين سنة نأتي لنعّزي بعضنا بعضا ونشعر بالإهانة؟ إنه قرف من يريد أن يبقي في إطار الماضي باكيا علي شيء وفرحا بشيء آخر.. إن المنطق يفرض علي من يقرأ هكذا أوراقاً أو محاضر لا نعرف من أين اتي بها هيكل فيما إن كان صادقا فيما ذهب إليه.. المنطق يقضي أن نقرأ اليوم تاريخا لا أن نجلس نبكي علي الأيام! هذا إذا افترضنا ما قيل صحيحا، وأعتقد أن الكبار في هذا العالم في أي عصر أو زمن هم الذين يفرضون ارادتهم علي الآخرين والعكس ليس صحيحا! إن قرابة تسعين سنة مرت علي نتائج الحرب العالمية الأولي وما زلنا نبكي أوطاننا التي قسمّت بين المنتصرين! ولا يعرف صاحبي هيكل لماذا دخلنا الحرب؟ ولماذا لا يدرك بأن العرب لم يدخلوا الحرب بمشيئتهم، بل كانت بعض ولاياتهم مرتبطة بالدولة العثمانية التي تشّظت ممتلكاتها، بعد أن دخلت الحرب بالرغم من ارادة المجتمعات التي تضمها، ومنها المجتمعات العربية..
لكن الأتراك لم يبكوا اليوم أوطانهم وممتلكاتهم، فلقد برز فيهم مصطفي كمال اتاتورك ليؤسس الجمهورية التركية ويصبح ما مضي في عداد التاريخ.. ويبدأ يتعامل مع الغرب من دون بكاء أو ولولة ومن دون أي شعور بالإهانة ! وتعال يا هيكل لأسألك: هل كان لورنس كاتبا لمحاضر جلسات في مؤتمر الصلح عام 1919؟ إن الذي نعرفه أنه شارك في المؤتمر برفقة الوفد العربي الذي تزعّمه الأمير فيصل بن الحسين، وكان مترجما له وقد ضم الوفد خمس شخصيات لا غبار علي تاريخها الوطني. أما لماذا حضر فيصل بن الحسين مؤتمر الصلح؟ ولماذا دعاه اليه المؤتمرون ولم يسمح لغيره بدخول قاعة المؤتمر؟ فالجواب يكمن في قدرة فيصل لشرح القضية العربية، وكان يحمل انتصاره بيده بعد أن حرر الحجاز والشام من الأتراك ودخل دمشق محررا ليؤسس دولته العربية الأولي.. في حين كان سعد زغلول قد ذهب إلي باريس للمشاركة في المؤتمر من دون أي دعوة (بمعني أن الرجل كان يؤمن بما للمؤتمر من فائدة) ولكن لن يسمح له في عرض مشكلته، وأعتقد أن سعد زغلول قد ذهب إلي هناك لا لكي يعرض القضية العربية ولا حتي ليتعاطف معها، بل ذهب لعرض قضيته المصرية! وهكذا بالنسبة لآخرين.. وأعتقد أن سعد زغلول لم يشعر بالإهانة أبداً، إذ إن عقليته البراجماتية ومهارته السياسية تعلمه بأن الضعفاء لا يمكن أن يفعلوا شيئا من دون أن يدعمهم الأقوياء.. ثم إن زغلول كان يدرك الطرق المسدودة التي كانت تحيطه في مصر قبل غيرها.. وبقيت معه حتي رحيله !
مشهد سوريالي للتاريخ
يختتم هيكل أحاديثه قائلا: "هنا إحنا بنلاقي نفسنا أمام أوضاع أمام حقائق نشأت تاريخيا أمام لمحات من المشهد العام من الصورة في المنطقة أمام مشاهد لا تزال مؤثرة علينا أمام خريطة نحن نظرنا إليها باستمرار بلد.. بلد والعالم تعامل معها منطقة بحالها وإحنا تكلمنا فيها ملوك وعروش ولم نتكلم فيها كقضايا ولاقينا أوطاننا علي جيلي أنا لما جاء وأطليت أو أطل غيري آلاف الشباب وقتها في أعقاب.. في نهاية الحرب العالمية الثانية لاقينا أمامنا في ضمن الساحة هناك مشهد عالم عربي غريب قوي لا تدري كيف وصلت به الأمور لهذا الشكل إلا أنه عالم نشأ في صراعات هو لا يعلم بها علي خريطة هو لم يقرأها مسجلة في وثائق هو لم يطلع عليها ثم إنها حاكمة في مصائره وفي مقاديره يومها وإلي غد غير منظور، تصبحون علي خير".
هذه هي الخاتمة العاطفية المؤثرة التي ينتظرها كل المشاهدين العرب وهيكل يربط الحاضر بالماضي ويقول إنه أمام حقائق نشأت تاريخيا.. ولكنه لم يمنحنا كل الحقائق وقد اختزل مائة سنة من تاريخنا بحديث لا تخرج منه بأي جديد وكأن الأجيال الثلاثة كلها ضحية عروش وملوك ولم تكن ضحايا لآخرين لعبوا أدوارا مماثلة أم مغايرة ولكن من نوع آخر.. وكأن كل مصائب القرن العشرين يتحملها ثلاثة ملوك لهم عروشهم التي حمتها بريطانيا من دون أي فهم لكل القضايا التي عاشت وماتت ومن ثم ولدت قضايا اخري ومن ثم ذهبت ووّلت.. وكأن المشهد العام من الصورة في المنطقة واحد! وكأن اللاعب الأساسي الفاشل لم يكن مذنبا، وكأن الأجيال لم تتبدل أفكارها من زمن لآخر.. وكأن الأوطان لم يضيعها إلا ثلاثة ملوك.. وكأن البطولة والشرف الرفيع لا يحمله إلا زعيم واحد.. وكأن الأمة العربية لم تضيعها الحروب الباردة والخطابات العنترية وكأن الأمم الأخري لم تعش مشاهد غريبة أيضا ولم تنشأ في ظل صراعات.. وكأن لا خريطة في العالم كله إلا خريطتنا العربية.. وكأن العرب لم تكن لهم أي نخب ومختصين وخبراء عرفوا أسرارا لم يدركها غيرك يا هيكل.. وكأن الوثائق لا تعرفها إلا أنت.. وكأن ملايين الناس لابد أن تقرأ الوثائق بطريقة هيكلية حتي تعرف تتحكم في مصائرها.. وكأننا نحاكم يا هيكل أمة تفوقت علي غيرها من الأمم بمنتجاتها وإبداعاتها وكل عبقرياتها.. وكأن الأمة لم يضيعها المشعوذون والكذابون والمفترون والمتوحشون والجلادون والاحاديون والطامعون والسارقون والمرتشون والمشوهون والفاشلون والفنانون والعتاة والمجرمون وخونة العهود والدجالون والممترون والكسالي والتنابلة والمهووسون..
كنت اتمني أن تطالب بدولة الخلافة الدينية يا هيكل قبل خمسين سنة من اليوم؟ فما الذي سيجري لك؟ كنت اتمني أن تتعلم أشياء كثيرة من منطق تغيير العالم الذي حصل بعد انهيار الكتلة الاشتراكية وسقوط الاتحاد السوفيتي وحلفائه.. لكنك لم تتعلم أبداً شيئا ذا بال.. إنك لم تزل باقياً في عتمتك التي تتكلم منها للعالم المضيء ولا أحد يراك! وكأنك لم تغّير من نهجك وقد تجاوزت الثمانين من العمر (اطال الله في عمرك) ! وكأنك لم تراجع نفسك ولو لمرة واحدة بعد كل هذا الذي اشعلته وتريد استمرار اشتعاله ! والاعتراف بالخطأ فضيلة يا ريت تجربها ولو لمرة واحدة، فما اطيبها من تجربة، وما اروعه من سلوك.. وتعلن للملأ اعترافك بما جنيت من اخطاء بحق غيرك وبحق التاريخ.. إنني لا أحاكمك سياسيا، فقد حاكمتك في "تفكيك هيكل" بما يكفي ويكفي حجمك السياسي في حياتنا العربية إبان القرن العشرين، ولكنني أحاسبك اليوم علي ما اقترفته وأنت لم تزل تكتب تاريخا مشوّها من دون ادراك للحقائق، بل تلوك كل ما سمعناه في القرن العشرين.. ومن دون أي شعور بالذنب كم من الصواب الاعتراف بأنك لم تعرف قراءة الوثائق إن كنت فعلا قد اطلعّت علي وثائق.. فضلا عن كونك لا تلم أبدا بتاريخ العرب الحديث ولا بتاريخ مصر الحديث.. ولم تعترف أبدا بأن ثمة مؤرخين عرباً ومصريين هم الذين يحملون مسئوليتهم العلمية وأمانتهم التاريخية تجاه الأجيال خصوصا، أن مصر بالذات قد انجبت افضل المؤرخين في النصف الأول من القرن العشرين، ولم يزل فيها البعض من أذكي المؤرخين المنصفين الذين لا يرون رؤيتك وهم يخالفونك حتما في كل هذا الوباء الذي تظهره علي شاشة قناة الجزيرة الفضائية.
وأخيراً، عذرا عما بدر علي لساني من خلل في بياني متمنيا للأستاذ محمد حسنين هيكل دوام الصحة والعافية وأن يمتعه بما تبقي له من عمر طويل بحسن الختام، فهل سننتظر منه في يوم من الأيام ورقة اعتذار ليس بحق الزعماء، بل بحق هذه الأمة التي تجّني عليها كثيرا وساهم في زرع الاحباط بنفوس أبنائها وغرس الاحقاد في عقول الناس.. كي يعترف ويقول للأجيال الجديدة كم ارتكبت من حماقات بحق تاريخهم ومستقبلهم.. فهل سيفعلها هيكل أم سيلوذ كعادته بالصمت الرهيب؟
وأخيراً: ماذا تقول وماذا نقول؟
تقول يا هيكل: "لا أزال واقفا أمام المشهد الذي أطل عليه جيلي وأطليت عليه مع جيلي وإن اختلفت مواقع الرؤي بينا، بيننا كما شرحت من رأي الغابة، من رأي الشجرة، من رأي الجيل، من رأي النار، بالنسبة لي في هذا الجيل أو ضمن هذا الجيل كان المشهد الذي لفت نظري هو كما شرحت أول حاجة القوي الأمريكية عن حافة الأفق، الحاجة الثانية كانت الأسر المالكة الثلاث الحاكمة في العالم العربي واللي واحدة علي الخليج وواحدة علي البحر الأبيض المتوسط، اللي هي مصر يعني وواحدة علي الخليج اللي هي السعودية وأخري دولة الهاشميين موجودة في الوسط ما بين بغداد وبين عمّان ".
إنني لم ازل أراك واقفا، ولكن ليس أمام المشهد بل تقف من ورائه، ولم تعرف كيف تطّل عليه أبداً! ليس لأنك قليل الخبرة أو الحذاقة أو المهارة في الصحافة والإعلام، بل لأنك قصير الرؤية وقريب النظر ,, وليست لديك اي ثقافة تاريخية عميقة أبداً! انك لا تعرف إلا أن تجد اوراقا أو صفحات تقرأ فيها من دون أن يكون بمقدورك أن تنجح في ربط نسيج الأحداث مع بعضها البعض.. كما أنك لا تميز بين البيئات التاريخية التي تختلف فيها جذور كل بيئة عن الأخري!
إنك قد تشبعّت بخطاب سياسي معين تركه الزمن منذ وقت طويل.. ولم تزل تحمل رواسب من يحب ومن يكره.. إن المؤرخ الحقيقي لا يعرف ذلك أبدا، فما دمت تكتب تاريخا معينا، ولنقل تاريخا عربيا حديثا، فمن بديهيات المنهج أن تعامل كل الاحداث والشخوص والأبطال والمواقع والافكار معاملة واحدة.. وأن تفرق في الاحكام، فأنت هنا ذلك المؤرخ الذي ينبغي أن يلتزم وألا يدخل نفسه طرفا في الموضوع الذي يبحثه.. في حين نجد السياسي أو حتي الإعلامي له المزيد من الحركة والمرونة.. فهل وعي الأستاذ هيكل الدرس؟
الحلقة المقبلة يوم الأربعاء
"الكاتب.. مفكر عربى عراقى مقيم فى كندا
وأستاذ فى جامعات عربية وأمريكية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.