لولا الإنتاج الكبير، والتنفيذ الاحترافي المعتاد ل»شريف عرفة" في الأفلام التي يخرجها بصرف النظر عن مستوي السيناريو، لكان فيلم "ولاد العم" الذي كتبه "عمرو سمير عاطف" في أولي تجاربه للسينما من أضعف أفلام 2009 بحبكته الهزيلة، وبحواراته المباشرة، وبسقوطه في أسوأ ما تعاني منه أفلام الجاسوسية التي قدمتها السينما المصرية، وأعني بذلك ثنائية "السذاجة" و"المباشرة"، ورغم أن "ولاد العم" يقوم علي فكرة إنسانية لامعة كانت تعد بفيلم جيد أو مقبول في أسوأ الأحوال، لكننا انتهينا إلي عمل يعود بنا إلي أفلام الجاسوسية المتواضعة علي طريقة فيلم "مهمة في تل أبيب"، والأسوأ أن شخصية ضابط المخابرات المصري هي أضعف ما في الفيلم، وهو أمر مؤسف ليس فقط لأسباب وطنية، ولكن لأسباب فنية، لأن الضابط هو الطرف الآخر في الصراع، وضعفه يعني ببساطة ضعف الدراما أيضًا. قبل أن نُفصِّل ما سبق ذكره إجمالاً، أريد الإشارة إلي أن أفلام الجاسوسية جيدة الصنع من أفضل الوسائل لتقديم رسائل سياسية غير مباشرة استغلالاً لجاذبية هذا النوع من الأفلام، والمثال النموذجي المعروف هو سلسلة أفلام "جيمس بوند" - وهي أشهر وأهم وأبرز أفلام الجاسوسية علي الإطلاق. لو شاهدت هذه السلسلة منذ الستينيات من القرن العشرين حتي اليوم لحصلت علي فكرة كاملة عن علاقة الشرق بالغرب مدّاً وجزرًا، ولاكتشفت تمجيدًا لا حدود له - وبصورة غير مباشرة - للامبراطورية البريطانية التي فقدت مستعمراتها علي أرض الواقع ولكن "چيمس بوند" الذي يعمل في خدمة صاحبة الجلالة، حوّل العالم كله إلي ملعب يظهر فيه تفوق وطنه ونجاح مخابراته الساحق، ليس هناك خطب من أي نوع، كل الرسائل تتسلل إليك عبر تفصيلات ذكية ومغامرات مشوقة دون صخب أو ضجيج، ولماذا تذهب بعيدًا، وفي رصيد "شريف عرفة" مخرج "ولاد العم" فيلم ناجح وجيد الصنع رغم بعض الملاحظات هو "مافيا"، وقد نجح "عرفة" في تقليل تأثير الخطب الوطنية المباشرة بالإيقاع السريع، وعوَّض المؤلف "د. مدحت العدل" الرسائل المباشرة بالحبكة الجيدة وبالبناء المشوق للأحداث بحيث يسلمك المشهد للمشهد الذي يليه، كما قدمت الشخصيات الأربع في "مافيا" التي لعبها "أحمد السقا" و»مصطفي شعبان" و»مني زكي" و»عباس أبوالحسن" بصورة متوازنة تدعم الصراع وتؤكده. "ولاد العم" مشكلته الأساسية الكبري في السيناريو الذي يبدأ بداية قوية جدًا تنبئ بعمل مشوق وقوي: سيدة مصرية تعيش في بورسعيد هي "سلوي" (مني زكي) مع طفليها وزوجها "عزت" (شريف منير) يصطحبها الزوج مع الطفلين في رحلة بحرية، وفجأة يخبرها أنه ضابط إسرائيلي اسمه "دانيال". مشهد افتتاحي نموذجي يدخل بالمتفرج مباشرة إلي موضوعه بل إلي قلب الأزمة، وبعد دقائق قليلة سيتحدد الصراع من خلال مشاهد محدودة وسريعة، وستتحدد الأطراف في الزوجة المصرية المخدوعة والمخطوفة، والزوج الخاطف الذي تزوجها وأنجب منها رغم أنه ضابط إسرائيلي في الموساد، وضابط المخابرات المصرية "مصطفي" (كريم عبدالعزيز) الذي سيكلف بمهمة في "تل أبيب" لاستعادة الزوجة المصرية وطفليها من الزوج "عزت" أو "دانيال". ولكن مع تقدم الأحداث إلي الأمام سيختل التوازن بين أطراف الصراع، الأزمة الإنسانية والصدمة العاطفية التي تعانيها "سلوي" في إسرائيل ستكتسح المشهد، ورغم غرابة الموقف بأكمله إلاّ أنه يمكن توظيفه لتقديم مشاعر مختلفة ومعقدة، ويوسِّع السيناريست الدائرة للتعرف علي المجتمع الإسرائيلي، وتظهر "تل أبيب" في صورة مدينة شديدة العصرية والنظافة ونستغرق في حوارات أو مناظرات طويلة بين "سلوي" و»دانيال"، علي الجانب الآخر سيتم رسم ضابط المخابرات المصري بطريقة باهتة وغريبة، وفي أول ظهور له سنجده وقد أصبح مذيعًا يقرأ تقريرًا في الإذاعة بالعبرية يقول فيه أنه رغم مرور 29 عامًا علي السلام مع إسرائيل فإنه تم اكتشاف 25 شبكة للتجسس، وفي المشهد التالي سيقتحم أحد أوكار الجاسوسية، وسيخوض صراعًا ضد جاسوس إسرائيلي في القاهرة! بصفة عامة قد تعتمد حروب المخابرات علي اختيار ضباط شديدي الهدوء مما رأينا سواء علي الجانب المصري أو الإسرائيلي، وقد يتم اللجوء للعنف أحيانًا ولكن أصل اللعبة الاعتماد علي الذكاء، وبدلا من اختزال التفاصيل للدفع بالضباط المصري إلي دخول عالم الزوجة المصرية المخطوفة وزوجها ضابط الموساد، يستغرق الفيلم وقتًا طويلاً جدًا في إدخال الضابط كعامل للبناء في عملية إقامة الجدار العازل، ويشاهد أيضًا هدم المنازل، ويعمل في صيدلية يديرها مصري يهودي، ويدير معه حوارًا حول اليهودية والصهيونية، ويتعرف الضابط المصري علي فدائية فلسطينية اسمها "دارين"، ويمنعها من تفجير ملهي ليلي بمنتهي السهولة، وخلال ثلاثة مشاهد فقط ستبدو معجبة به علي طريقة "جيمس بوند"، كل هذه المشاهد استطرادات مليئة بالحوارات المباشرة تؤخر الصراع الأساسي بتنفيذ المهمة الأصلية وهي إعادة الزوجة المصرية وطفليها. بعد طول انتظار ستكتشف أن أقوي ما فعله الضابط هو الحصول علي بصمات الضابط "دانيال" بدخول منزله مع أنه كان يستطيع أن يحصل عليها من خلال وجوده في الملهي الليلي، وستضحك كثيرًا عندما يستدل علي ثبات الزوجة لمجرد أنه رآها من النافذة وهي تحفظ طفليها القرآن، أما عن مقابلات الضابط المصري مع الزوجة في حديقة عامة فهي أيضا ساذجة ويمكن كشفها بسهولة، خاصة أن زوجها الإسرائيلي يراقبها، ولكن أعجب ما سيفعله الضابط المصري هو اكتشاف - نعم اكتشاف - أن المعلومات التي جمعها "دانيال" من مصر موجودة في ملف داخل الموساد، وفي سبيل الحصول عليها سيدخل الموساد بسهولة أكبر من السهولة التي ندخل بها مجمع التحرير، وسيكون ذلك بمساعدة عميل مصري له عشرون عامًا في إسرائيل، ولا أعرف لماذا لم يتم اللجوء إليه مباشرة بدلاً من إرسال الضابط "مصطفي" الذي لم يفعل شيئًا سوي الحصول علي بصمات "دانيال"! السيناريست "عمرو سمير عاطف" الذي اشتهر بحلقات "الست كوم" قادنا بعد جهد إلي صراع أقرب ما يكن إلي قصص "الكوميكس"، حتي الضابط الإسرائيلي "دانيال" يكشف عن جانب أغرب عندما يقول إنه أصر علي خطف زوجته لاستدراج الضابط المصري والقبض عليه، ولكن -في كل الأحوال- فإن أداء الضابط "دانيال" أفضل من "مصطفي" الذي سقط بسذاجة في الفخ.. والأهم أن "دانيال" قد أثبت أن وطنه إسرائيل أهم لديه من زوجته وابنه، باختصار: اختلطت الخيوط وبدت اللعبة بأكملها شديدة السذاجة، وتحول الجزء الأخير من الفيلم إلي مطاردات ومعارك في شوارع تل أبيب، وفي أحد المصانع المهجورة، ومع كل ذلك لن ينتهي الفيلم بعودة الزوجة وطفليها إلي مصر، وإنما بنهاية مفتوحة تؤكد أن الصراع مستمر! كتابة أفلام الجاسوسية ليست أمرًا سهلاً علي الإطلاق، وفيلم "ولاد العم" يقدم حوارات خطابية للتعاطف مع الفلسطينيين وللتحذير من الدولة العبرية، ويفتقد بالمقابل الإطار المشوق والأحداث الذكية التي تجعلك تبتلع الرسالة، ما شاهدناه مباراة تفتقد أدني حدود الذكاء والمهارة، ومشاهد "الأكشن" جيدة التنفيذ لم تستطع أن تعوض شيئًا.. هناك مجهود ضخم وواضح بذل في التنفيذ وفي اختيار مواقع التصوير وفي تنفيذ مشاهد المطاردات، ومهارة "شريف عرفة" الحرفي البارع تحاول سد ثغرات السيناريو وسذاجة ومباشرة الحوار فلا تنجح في معظم الأحيان، ورغم اجتهاد "كريم عبدالعزيز" و»شريف منير" إلا أن صورة ضابط المخابرات التي قدماها لم تكن مقنعة، فقد كانا أقرب إلي رجال العصابات، ولم ينقذ الفيلم سوي أداء "مني زكي" وشخصيتها الثرية والمليئة بالانفعالات، وجاءت صورة "أيمن أبوالمكارم" شديدة الثراء خاصة في مشاهد الجدار العازل التي تقترب من الأفلام الإخبارية، والغريب أن جمال مشاهد تل أبيب أعطي تأثيرًا دعائيا - غير مقصود بالطبع - خاصة مع ديكورات "فوزي العوامري" الفخمة، أما موسيقي "عمر خيرت" فهي أقوي بكثير من المشاهد التي صاحبتها، وما زالت القاعدة سارية: أكثر المخرجين احترافًا لا يستطيع أن يرفع كثيرًا من أي سيناريو متواضع!