في ظل الأزمة المالية التى تضرب الاقتصاد الأمريكى بضراوة، تعالت أصوات سياسية أمريكية تطالب بضرورة توفير كل الفرص أمام المواطنين الأمريكيين وعلى رأسها حقهم في العثور على عمل مناسب لتنادى بمراجعة شاملة لنظام التأشيرات الخاص بالعمالة الأجنبية الماهرة الوافدة إلى الولاياتالمتحدة وتشديد اجراءات مكافحة الهجرة غير الشرعية. لكن، في المقابل فإن تضييق الخناق على بوابة الهجرة إلى أمريكا.. بلد المهاجرين في الأساس.. ستكون له عواقب وخيمة على الاقتصاد الأمريكى وعلى التقدم الأمريكى في العلوم والتكنولوجيا والأبحاث والدراسات كما تحذر بعض مراكز الفكر الأمريكية، اذ عرفت الولاياتالمتحدة دوما بأنها بلد الفرص والأحلام التى تضم خيرة عقول أبناء الأرض من كل دول العالم كانت لها اسهامات كبيرة فيما وصلت اليه أمريكا اليوم من نهضة. غلق الأبواب المعادلة صعبة وبحق.. فالموازنة بين حقوق وفرص المواطنين الأمريكيين في العمل وبين ضم خيرة عقول الدول الأخرى مطلوب لكنه ليس سهلا، خاصة حينما يعمم السياسيون الأمريكيون حديثهم ليخلط بين الهجرة الشرعية وحقوق المواطن الأمريكى في التوظيف وبين التأشيرات الخاصة التى تحصل عليها العمالة الأجنبية الماهرة لكى تقيم في الولاياتالمتحدة كما فعل النائبان ديك ديربن وتشاك جراسلي في ابريل الماضى عندما تقدما بمشروع قانون لاصلاح برنامج تأشيرات "اتش وان بي" H-1B الذى يمنح العمالة الأجنبية الماهرة اقامة في أمريكا لمدة ست سنوات. وقالا ان البرنامج يجب أن يكون مكملا لقوة العمل الأمريكية وليس بديلا لها (وذلك بدعوى حماية فرص الأمريكيين في العمل) لكنه بالشكل الحالى يحول فرص التوظيف داخل أمريكا لمن ليسوا أبناءها. لم يرد في المشروع الذى قدمه النائبان أى حديث عن خفض لأعداد التأشيرات الممنوحة تحت هذا البند، وانما اشترطا السماح بتوظيف العمالة الأجنبية بعدم وجود موظفين أمريكيين بالكفاءة المطلوبة بعد أن سمحت وزارة العمل الأمريكية بتوظيف الأجنبي حتى اذا وجد الأمريكى الذى يمكن أن يملأ الفراغ، مما أدى لاكتفاء بعض أصحاب الأعمال بتوظيف الأجانب وتفضيلهم على الأمريكيين. لكن الواضح أن الرئيس الأمريكى باراك أوباما (وحتى السناتور جون ماكين) يدرك أهمية العمالة الأجنبية الماهرة بالنسبة لأمريكا، فقد قال كلاهما أثناء الانتخابات الرئاسية العام الماضى أنهما يؤيدان رفع سقف التأشيرات الممنوحة وفق نظام "اتش وان بى" والبالغ عددها65 ألف تأشيرة. سياسة جديدة وفى اطار الجدل المستمر حول أهمية الهجرة للاقتصاد الأمريكى، أصدر مجلس العلاقات الخارجية في يوليو الماضى دراسة مفصلة عن سياسة الهجرة الأمريكية وكان جيب بوش، حاكم فلوريدا السابق وشقيق الرئيس جورج بوش، أحد رؤسائها. الدراسة كانت نتاج عمل مجموعة بحثية خاصة بالمجلس وحذرت من أن استمرار الفشل في تنفيذ سياسة جيدة بخصوص الهجرة ينذر باضعاف الاقتصاد الأمريكى وتهديد الدبلوماسية الأمريكية وتعريض الأمن القومى للخطر. المجلس يرى أن ادارة باراك أوباما يجب أن تتحرك سريعا لوضع خطة شاملة لاصلاح قوانين الهجرة واتخاذ قرارات حازمة بشأن الهجرة غير الشرعية مع تشجيع هجرة العمالة الماهرة. ولهذا الغرض، وضع خطته الشاملة كما جاء بالدراسة التى أصدرها الصيف الماضى، وهى تقوم على ثماني نقاط أهمها: جذب المهاجرين المهرة، من خلال القضاء على نظام الحصص "الكوتة" في توزيع نسب الهجرة على الدول وتوفير فرص جديدة للطلاب الأجانب الذين حصلوا على درجات متقدمة خلال تعليمهم بالولاياتالمتحدة لكى يستقروا هناك بعد تخرجهم. الأمن القومى، خفض القيود المفروضة على التأشيرات والتى تعرقل التعاون العلمى وذلك بناء على قناعة مفادها أن أمن أمريكا على المدى الطويل يعتمد على احتفاظها بمكانتها كقائدة للعالم في العلوم والتكنولوجيا، بل والدعوة للسماح للجيش الأمريكى بتجنيد المهاجرين الجدد قبل أن يصبحوا مواطنين أمريكيين لتعزيز الامكانيات العسكرية الأمريكية. الاشتراط على صاحب العمل التأكد من أوراق تصريح عمل الأجنبى سليمة وعدم قبول من لا يستطيع تقديم هذه المستندات. تسهيل وتبسيط والاستثمار في نظام الهجرة، وهو ما سيجرى عبر لجنة عليا مستقلة تشكلها الإدارة الأمريكية والكونجرس لتحسين شفافية قوانين الهجرة الأمريكية. تحسين صورة أمريكا في الخارج، بمراجعة القيود الأمنية المفروضة على سفر جنسيات معينة للولايات المتحدة تشديد الرقابة على الحدود ندربهم دون الاستفادة منهم! ولم تكن مراكز الفكر اليمينية أقل انتقادا للقيود المفروضة على العمالة الوافدة، فقد نشرت مجلة "الأمريكي" أو The American وهى دورية صادرة عن معهد أمريكان انتربرايز المحافظ في العام الماضي مقالا بعنوان "أزمة الهجرة الأخرى في أمريكا"، بادئا كالتالي: "نحن نجلب أذكى الناس في العالم لشواطئنا وندربهم ثم نجعلهم يرحلون". المقال الذى كتبه الباحث فيفيك وادوا شخص المشكلة بالقول ان هناك أكثر من مليون عامل ماهر من مهندسين وعلماء وأطباء وباحثين وأسرهم في الولاياتالمتحدة ينتظرون تأشيرة الاقامة الدائمة التى يحصلون عليها بعد انقضاء مدة الست سنوات التى تتيحها فيزا ال"اتش وان بي"، لكنها عندما تتأخر فانهم يرحلون عائدين إلى بلادهم بخبراتهم التى اكتسبوها في أمريكا بعد أن ساهموا في نمو الاقتصاد الأمريكى وحسنوا وضعه على صعيد التنافس الدولى.. وتوقع وادوا أن تخسر المشروعات الأمريكية سواء الصغيرة أو الكبيرة مهارات خاصة قامت بدور كبير في النهضة التكنولوجية الأمريكية خاصة في ولاية كاليفورنيا وتحديدا على يد المهندسين الصينيين والهنود (الأجانب شكلوا أكثر من 52% من مدراء شركات تقنية في سيليكون فالي). ودعم الباحث أطروحته بمعلومات تقول ان أكثر من 25% من الشركات التكنولوجية الموجودة في أمريكا في الفترة بين (1995-2005) التى كانت تحقق أرباحا تصل إلى 52 مليار دولار وتوظف 450 ألف عامل كان يرأسها أجنبى (ولد خارج الولاياتالمتحدة). وبالبحث في جذور وخلفيات هؤلاء الأجانب "الكبار"، تبين أنهم كانوا أكثر ميلا للحصول على تعليم عال (96% منهم حاصلون على البكالوريوس و74% تخرجوا من الجامعة ودرسوا بعدها) لكن الأكثر مدعاة للامعان كان تخصصهم الدراسى اذ كان 75% من حاملى هذه الشهادات دارسين للعلوم والتكنولوجيا والهندسة والحساب.. وبمراجعة بيانات المنظمة العالمية للملكية الفكرية، فانه يتبين حجم الدور الذى يلعبه الأجانب في التقدم الأمريكي، حيث مثل المخترعون من الأجانب عام 2006 حوالى ربع (26%) الأمريكيين الذين تقدموا لتسجيل مشروعاتهم لدى المنظمة مقارنة ب8% فقط عام 1998 أى بزيادة تقدر ب337% خلال ثمانى سنوات.. وذكر وادوا في مقاله أن 60% من طلبة الدكتوراة و42% من طلبة الماجيستير في الكليات الهندسية يحملون جنسيات أجنبية، وهم الأفضل في بلادهم. ويدرك الكثير من المواطنين الأمريكيين أهمية الابتكارات أكثر من أى وقت مضى بالنسبة للاقتصاد الأمريكى خلال العقود الثلاثة القادمة، وهو ما ظهر فى استطلاع أجرته مجلة "نيوزويك" الأمريكية على 4800 شخص فى أمريكا والصين وألمانيا وبريطانيا ونشرته فى عددها الأسبوع الماضى. وبين الاستطلاع الذى مولته شركة "انتل" أن 81% من الصينيين يعتقدون أن أمريكا تحافظ على تفوقها على الصين فى مجال الابتكارات وعلى بقية الدول (بريطانيا وألمانيا واليابان والهند بنسب مختلفة)، بينما يوافق 41% فقط من الأمريكيين على ذلك. ولتحسين الابتكارات والاختراعات، يركز الأمريكيون على تحسين منهجية تعليم الرياضيات والعلوم فيما يريد الصينيون الاهتمام بحل المشاكل بطرق ابداعية بشكل أكبر مع التركيز على المهارات التجارية. أما فى معرض تحليل الأمريكيين لأسباب تخلف الأمريكيين فى مجال الابتكارات، فقال 42% ان العمال الأمريكيين يفتقرون للمهارات التى تتيح لهم الابتكار فى مجال التكنولوجيا.. يليه أسباب مختلفة مثل عدم استثمار قطاع الأعمال الأمريكى بما فيه الكفاية فى الابتكارات التكنولوجية أو أن المدارس الأمريكية متخلفة فى تعليم الرياضيات والعلوم. بداية السقوط؟ والسؤال الآن هو: هل فعلا يمكن أن تتراجع مكانة أمريكا العالمية من حيث ريادتها في العلوم والتكنولوجيا اذا ما أصبحت دولة طاردة للمهاجرين؟ لدراسة جميع الاحتمالات المطروحة أعدت مؤسسة راند البحثية دراسة مفصلة بعنوان "المنافسة الأمريكية في العلوم والتكنولوجيا" العام الماضى للوقوف على مدى حقيقة أن الولاياتالمتحدة تخسر تربعها على عرش العلوم والتكنولوجيا في العالم بسبب ما ورد عن عدم كفاية ميزانيات الأبحاث الأساسية ومشكلات في مناهج العلوم والتكنولوجيا بنظام التعليم الأمريكى ونقص العاملين في هذين المجالين وزيادة الاعتماد على الأجانب لشغل هذه الوظائف.. الدراسة أكدت أن أمريكا لا تزال تتصدر التقدم العلمى والتكنولوجى في العالم؛ فهى تملك وحدها 40% من اجمالى الانفاق على الأبحاث والتنمية في العالم كما تصل حصتها في براءات الاختراع التكنولوجية الحديثة الى 38% من مجموع الاختراعات في الدول الصناعية وفق تقديرات منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية. وأشارت الدراسة إلى أن 70% من الفائزين بجائزة نوبل يعملون في الولاياتالمتحدة التى تضم 75% من أفضل أربعين جامعة في العالم. الا أن الدراسة في الوقت نفسه حذرت من أن فقدان الريادة في مجال العلوم والتكنولوجيا سيقضى على النمو الاقتصادى الأمريكى ومستوى المعيشة الحالى في الولاياتالمتحدة كما سيشكل خطرا على أمنها القومى. ملامح هذا الخوف مرجعه إلى ما رصدته الدراسة حول زيادة انفاق الدول النامية مثل الصين وكوريا على الأبحاث والتنمية، لكنها تظل متخلفة عن الميزانية الأمريكية بكثير حيث زادت الولاياتالمتحدة من انفاقها على العلوم والتكنولوجيا من 166.1 مليار دولار عام 1993 إلى 292.4 مليار دولار عام 2003 أى بزيادة قدرها 126.3 مليار دولار وهى الأكثر في أى منطقة بالعالم خلال نفس الفترة (الاتحاد الأوروبى زاد ميزانيته ب76.6 مليار واليابان أضافت 38.3 مليار بينما زادت ميزانية الصين ب60.8 مليار دولار). وبحسب الدراسة، فان 20% من العلماء والمهندسين الشباب (بين 21-35 عاما) العاملين في أمريكا هم أجانب، اذ يشكل الخريجون من الصين وتايوان والهند وكوريا الجنوبية وخمسة عشر دولة أوروبية 61% من اجمالى الحاصلين على شهادة الدكتوراة في الولاياتالمتحدة (نسبة الصين وحدها 22%). وتشير الأرقام الأمريكية إلى أنه في عام 2004 كان هناك أكثر من 600 ألف طالب أجنبى من دول مختلفة، بخلاف الطلاب الكنديين الذين لا يحملون تأشيرة دراسية للولايات المتحدة وعددهم 60 ألفا. هجرة العقول لكن، هل يؤدى انجراف الشباب الصينى إلى الدراسة ومن ثم العمل بالولاياتالمتحدة إلى ما يمكن تسميته بهجرة العقول من الصين؟ تقول مجلة "الايكونومست" في عام 2003 ان بكين تعانى من هذه الظاهرة بشكل كبير، حيث تشير الاحصائيات الحكومية إلى أن نحو 600 ألف طالب صينى رحل خلال الربع قرن المنصرم لم يعد منهم سوى 160 ألفا، الا أن العائدين كانوا في تزايد في السنوات التالية.