يولد الإنسان تسيطر عليه انتماءاته الأولية الأساسية إلي أسرته ودينه وطائفته وفئته وعرقه وجنسه.. التعليم الجماعي. المدرسة اخترعت لتجاوز الانتماءات الصغيرة التي تفضي في النهاية إلي صراع وفتن وحروب أهلية والدخول بالفرد إلي رحابة الانتماءات الأقصي حداثة مثل الانتماء لحزب سياسي، انتماء لجمعية أهلية غير طائفية الانتماء لنقابة مهنية الانتماء للوطن وهي الانتماءات التي تفضي إلي تعايش واندماج وانصهار.. المدرسة هي أول مؤسسة لتعليم المواطنة.. الجميع يحيي علماً واحداً، لا توجد أعلام للفئات بل أعلام للأوطان فقط.. المقررات الدراسية والمناهج يجب أن تكون مفضية إلي الوطنية المصرية ومعنية ومساعدة علي تجاوز الانتماءات الأولية الصغري، وموصلة إلي الإنسانية مع مراعاة إدراك الأبعاد الأخري، عربي أو إسلامي. المقررات لدينا لا تفعل ذلك والمناهج أيضاً بل تضغط علي البعدين العربي والإسلامي وتغلق نفسها عليهما وتتجاهل الأساس المصري والبعد الإنساني، تخرج عربياً مسلماً ولا تخرج مصرياً عالمياً مدركاً للبعدين الآخرين، المقررات والمناهج تكرس الانتماءات الصغيرة إلي اللغة إلي الدين فتخرج كائنات طائفية بامتياز مضطربة الهوية غير مدركة لمصريتها ولمصالح مصر تالياً لكنها متشنجة دائماً للبعدين العربي والإسلامي متجاهلة لمصالح مصر. خطباؤنا في المساجد في دعاء مستمر لاخواننا في الشيشان وإخواننا في كشمير (ضد اخواننا في الهند) واخواننا المسلمين في العراق، وكأن العراق كله مسلمون وإخواننا المسلمين في فلسطين وماذا عن الفلسطينيين من غير المسلمين!! وحتي مادة اللغة العربية لا تخلو من قرآن ويدرسها أبناؤنا من الأقباط حيث ينتهي كل درس بآيات قرآنية علي القبطي أن يحفظها رغماً عنه كما تعج مقررات التاريخ بالآيات القرآنية ولا أعرف ما هي علاقة آيات القرآن الكريم بالتاريخ (!!) كذلك يمتنع علي القبطي أن يعمل مدرساً للغة العربية وهي اللغة الرسمية لبلاده. تحت حجة أنها لغة القرآن.. والمقررات الدراسية منذ (عبد الناصر) ضغطت بشدة علي البعد العربي (القومية العربية) فالرجل ألغي اسم مصر، واستبدله (بالاقليم الجنوبي لدولة الوحدة مع سوريا) فاضطربت الهوية.. ثم ركز الرئيس (المؤمن) في المقررات وفي الجامعات وشدد علي البعد الإسلامي حتي تخرج المدارس مسلماً يكافح الشيوعية.. وفتحت الجامعات أبوابها للإسلاميين بعد أن فتحت أيام عبد الناصر للشيوعيين كأساتذة.. الشيوعي يرسل إلي المجر ويعود بعد أقل من عامين ولديه ماجستير ودكتوراه يدخل كي يعلم أبناءنا مبادئ المجتمع الاشتراكي ووصل الأمر حتي أكد البعض أن (الرسول صلي الله عليه وسلم) كان اشتراكياً هو الآخر وألفت كتب عديدة تحمل عنوان (اشتراكية محمد) مثلاً.. روسيا والسعودية كانت أدوات النظام مرة أخري في المرحلة الناصرية وأخري في المرحلة الساداتية، في الأولي كان ( ماركس) وفي الثانية كان (ابن تيمية). وكما انتشرت الشيوعية في مصر الناصرية، انتشر التطرف الديني في مصر الساداتية وفي كليهما كان النظام هو الفاعل وأصبحت الشيوعية ثم التطرف الديني ملء السمع والبصر، ولكن متي تعود المدرسة إلي سابق عهدها والجامعة إلي استقلالها.. النديم عندما أسس مدرسة إبان ثورة عرابي قال (المدرسة تخلص أبناءنا من التعصب الديني، وتعلمهم الوطنية) التعليم المصري الآن يخرج كائنات طائفية، ولا يخرج كائناً مدنياً، ونادراً ما تصادف في تعاملاتك اليومية كائناً مدنياً فقد صار عملة نادرة ولكن ما الفرق بينهما؟ الأول (الطائفي) ينحصر في انتماءاته الأولية، يعيش بداخلها ويختنق بها تستغرقه وتستوفيه يسعي دائماً للصراع ويكون جاهزاً للفتنة والاقتتال، وليس للتعايش والاندماج (قنبلة موقوتة) فالآخر دائماً مصدر للشر شيطان كافر، الثاني (المدني) لا تمثل انتماءاته الأولية إلا بعداً من أبعاده فلا ينحصر فيها ولا تستغرقه ولا تستوفيه، يتجاوزه انتماؤه الديني، والطائفي يجنح إلي إطار جامع للتعايش (الوطن) ويرتضي بالانضواء فيه، يسعي إلي التعايش والاندماج، يذهب إلي صندوق الانتخابات وهو غير خاضع إلي حتميات ثقافية أو أثنية أو عرقية أو جنسية أو أيديولوجية معياره الوحيد (الكفاءة). تنظيم الانتخابات شيء سهل اختراع الناخب (الكائن المدني) هو الشيء الصعب الانتخابات إذا كان أساسها ناخباً طائفياً فسوف يتحول صندوق الانتخابات إلي نعش للديمقراطية سوف ينتخب المسلم مسلماً والمسيحي مسيحياً والكاثوليكي مثيله والشيعي مثيله والسني مثيله والبهائي مثيله والرجل مثيله والمرأة تنتخب المرأة وهكذا تتحول الديمقراطية إلي أداة لترسيخ الفرقة والتمزيق وإعادة التمزق وإنتاج الفسيفساء الأثنية والعرقية بدلاً من أن تكون أداة تجاوز لكل الانتماءات الأولية. المدرسة في أمريكا انتجت شعباً متجاوزاً لانتماءاته الصغيرة، والمجتمع المفتوح وفر ناخباً (مدنياًَ) جعل من باراك حسين الطفل الأسود المسلم. الكاثوليكي الناتج عن التفكك الأسري ابن حسين أوباما الكيني التربية زوج أمه المعلم الأندونيسي ثم جدته الأمريكية البروتستانتية.. الرئيس أوباما الكائن المدني المتعايش لا يعرف إلا معيار الكفاءة. الكائنات الطائفية كارثة علي مستقبل مصر والتعليم لا يزال يخرجها والإعلام لا يزال يغذيها والمجتمع لا يستشعر الخطر الحالي والقادم والحزب الحاكم علي خنق كل البني المتجاورة للطائفية من أحزاب ونقابات ومؤسسات مجتمع مدني ليعود بالمصريين القهقري إلي انتماءاتهم الأولية الصغيرة ليظل التعايش مستحيلاً والفتنة هي ما نستيقظ عليه كل يوم ونفجع ولنفقد أهم ثوابتنا التي كافح الأجداد من أجلها (وحدتنا الوطنية) التي ركعت بريطانيا العظمي أمامها يوماً من الأيام والتي أذهلت الشرق كله وحلم بها غاندي في الهند وكانت لهم أملاً يرتجي وحلماً بعيد المنال!! وسنظل نراوح بين الانتخابات بلا ناخبين أو ناخبين طائفيين!!