علي جمال أن يتمسَّك بشيء ما، كانوا في الماضي يتمسَّكون به، والآن جاء دوره. أعلن جمال أمام نفسه عن قيامه بشيء مختلف منذ اللحظة التي يقف فيها الآن أمام المرآة. المُواجَهَة. ردد الكلمة، وأتبعها بتأكيد. نعم المُواجَهَة. دخل المطبخ. أعدَّ شاياً بالليمون. عاد إلي مرآة الحمَّام التي أعلن قراره أمامها منذ لحظات. شفط شفطتين طويلتين، وهو ينظر من فوق نظَّارته لعينيه في المرآة. عصر الليمون علي كوب الشاي الساخن، مما سمح له برشفتين عميقتين. لحسن حظه أنه لم يعصر الليمون مباشرة علي الشاي المقيم علي النار. قيامته الآن، ليستْ قيامة بمعني القيامة، إنما استفاقة، صحوة، عودة للحياة بعد موت. إنها قيامة بمعني القيامة. لو كان الشاي بالليمون ساخناً جداً، لما استطاع رشفه رشفتين عميقتين. بداية جيدة، كل شيء ينذر بأنه يستطيع الآن أداء دوره، فقط التركيز علي الهدف الواضح أمامه. دخل سريره في الرابعة عصراً. في المساء، وفي وقت العشاء كان يجلس في مطعمٍ بعيد عن بيته. اقترب منه الجرسون، ونظر إليه بقسوة، وقال بصوت خفيض، وهو يميل عليه، ويسند ذراعيه، واحدةً علي ظهر الكرسي، والأخري علي طرف المنضدة، ويشير برفع ذقنه إلي الطبق الموضوع أمامه، لانشغال ذراعيه بالحصار، ولرغبته في تحقير فعل الإشارة: أنتَ وضعتَ شيئاً ما في طبق طعامك. أبعد جمال رأسه بانتباه يقظ عن وجه الجرسون القريب من وجهه، وقال باهتمام، وهو يشير بإصبعه إلي حشرة في أرز زوج الحَمَام: نعم إنه صرصار صغير ميت. وبحرص نكش جمال الأرز بطرف الملعقة، حتي يري الجرسون جثة الصرصار. رفع جمال يده، وأخرج كتفه بذراعه التي ارتمت إلي خلف الكرسي، بحيث حجز بين ذراعه وظهر الكرسي، إصبع الجرسون الذي أفلتَ يده، ونظر إلي واحد من الزبائن، أكله الفضول لمعرفة ما يدور حول المنضدة البعيدة عنه بمترين. رفع الجرسون سرفيس الطعام من أمام جمال. تحدَّث مع صاحب المطعم الجالس علي مكتب صغير في صدر المكان. بعد قليل كان الجرسون يعد سرفيساً جديداً أمام جمال، وجاء بزوج جديد من الحَمَام. أكل جمال باستمتاع، وطلب من الجرسون أن يأتي له بكوب شاي من المقهي المجاور. فكَّر جمال أن خَدَمَات مثل هذه لا بد أن تكون متاحة بين المطعم والمقهي، ومع أنها المرة الأولي له في هذا المطعم، إلا أن طلب الشاي بدا مألوفاً للجرسون. أحسَّ جمال بفيض عظيم من الثقة بالنفس، وانتظاراً لوصول الشاي تذكَّر جمال إعلان المُواجَهَة أمام المرآة. لم يكن يتوقَّع أن تكون بدايته الجديدة في نفس اليوم. وقف أخيراً أمام مكتب صاحب المطعم لدفع الحساب. ابتسم صاحب المطعم ابتسامة صفراء، ورفض أخذ المال من زبون جديد. بدا علي جمال الخوف والاستغراب، ومحفظة النقود في يده. ألحَّ جمال بأدب، وتمسَّك صاحب المطعم بموقفه. كانت انتكاسة مُفاجِئة لجمال. كانوا في الماضي يتمسَّكون بأمور مُشابِهة. خرج من المطعم في الواحدة ليلاً. وخرج له اثنان من شارع جانبي. لم يشعر بآلام الضرب في أنحاء جسده. دخل بيته في الثانية والنصف ليلاً. عاين آثار الضرب أمام مرآة الحمَّام. قال في نفسه: لحظي السيئ لم ير صاحب المطعم علي الأرجح لجولي أندرسون سوي صوت الموسيقا. لم يكن جمال يعرف اسم الفيلم الذي وضعتْ فيه جولي أندرسون حشرةً في طعامها. لم تملك جولي المال لطعامها، بينما كنتُ أملك المال. نزع جمال من مكواة قديمة ناشيونال، سلكها الكهربائي المضفور. وفي حلقة السقف الحديدية، عقد طرف السلك، وفي الطرف الآخر صنع حلقة لرقبته. كانت آخر صورة في مخيلة جمال، قبل أن يدفع الكرسي من تحت قدميه، صورة موديل في إعلان عن مكواة ناشيونال حديثة تضخ بخار الماء من فتحات سفلية.