بينما كانت جدتي تحلق بنا في سماء الحواديت، كانت في الوقت نفسه تضيء وترسم لنا خريطة الطريق. من لم يستمع إلي الحواديت في طفولته سيكون من الصعب عليه عندما ينضج اتخاذ القرارات الصائبة، هناك نماذج من البشر والغيلان أيضا عليك أن تعرف عنها الكثير في طفولتك، وهذه النماذج تسكن الأرض وتتحرك عليها من خلال طرق أو بمعني أدق من خلال سكك، أشهرها هذه الأيام وأخطرها هو السكة الحديد أما في عالم الحواديت فقد كانت هناك ثلاث سكك فقط، سكة السلامة وسكة الندامة وسكة اللي يروح ما يرجعش. من منا لا يحتفظ بذكري جميلة عن الشاطر حسن، وست الحسن والجمال، هما يمثلان الشباب والجمال وجبهة الخير وعلي الضفة الأخري علي جبهة الشر توجد أمنا الغولة، هي ليست أجنبية عنا بل هي تمت لنا بصلة قرابة قوية، هي أمنا، حتي قبل أن تظهر أفكار داروين إلي الوجود، وهي شريرة ككل الغيلان في كل الحواديت غير أنك تستطيع النجاة منها مؤقتا علي الأقل عندما تبدأها بالتحية، بالسلام، عندها ترد عليك: لولا سلامك غلب كلامك، لكنت كلت لحمك قبل عظامك. يا لها من جملة جميلة وكأنها جملة موسيقية في أوبريت غنائي، لاحظ تكرار حرف الكاف، غير أنك لو تأملت الجملة ستكتشف أنها لا تقول شيئا جديدا، فالغولة في كل الأحوال ستأكل لحمك قبل عظامك، لأنه من المستحيل أن تبدأ بأكل عظامك قبل لحمك. وتمر عشرات الأعوام قبل أن أعرف أن الرئيس السادات قال لوزير خارجيته في كامب ديفيد: سيبني يا محمد آكل اللحم في الأول وبعدين أمصمص في العضم علي مهلي. (من كتاب محمد إبراهيم كامل رحم الله الجميع) طبعا هو كان يقصد حصوله علي سيناء في البداية ثم التفرغ علي مهل لتحرير بقية الأرض المحتلة. هل لذلك صلة بالشاطرحسن وست الحسن والجمال وأمنا الغولة؟ هناك في أعمق أعماق اللا وعي توجد ملايين الصور والمقولات التي سكنت هناك منذ الطفولة البعيدة، فماذا جعل هذه الصورة تطفو فجأة علي السطح، صورة اللحم قبل العظم. الجملة بليغة وواقعية وتمثل أعلي درجات الرشد في الدبلوماسية، غير أن وزير الخارجية لم يفهمها بدليل أنه أوردها في كتابه علي سبيل التندر، لو أنه كان قد دعي إلي مأدبة في الريف لعرف معني أن تبدا باللحم قبل أن يأكله الآخرون ثم تتفرغ لمصمصة العضم علي مهل. ولكن هل خريطة الطريق في الحواديت القديمة واضحة تزينها علامات المرور التي تنبهك إلي منحنياتها الخطرة؟ لا توجد في الحواديت وربما في الحياة أيضا لافتات تدلك علي الطريق الذي يوصلك لهدفك، علامات المرور بداخلك أنت، أنت الشاطر حسن، وأهم ماتتميز به هو أنك شاطر، أنت تجيد عملك وطموح وتحب المغامرة وتتميز بعلو الهمة والرغبة في تحدي المجهول، الكسالي والعجزة والبلهاء لا يصلحون أبطالا في الحواديت، ربما في الحياة الواقعية فقط، لذلك ستتمكن بالحدس فقط من اختيار طريقك، إنه سكة السلامة والذي يوصلك إلي ست الحسن والجمال. كثيرون يعتقدون أن سكة السلامة هي تلك التي تخلو من الأخطار، الواقع أن الطريق الوحيد المؤدي لهدف بعيد ولا تعترضه الأخطار هو طريق لا وجود له، وإن وجد فمن المستحيل أن يوصلك لست الحسن والجمال، أي إلي الخير الأسمي، فكرتك صحيحة بقدر اقترابها من تحقيق الخير الأسمي، أي بقدر اقترابها من تحقيق الخير لأكبر عدد من البشر داخل حدودك وخارجها. لست واثقا أن الشاطر حسن كان يختار سكة السلامة طول الوقت، في رأيي هو كان يتجنب فقط سكة الندامة لأن الحالمين بالخير الأسمي لكل البشر لا يعرفون الندم. أنا أعتقد أيضا إن سكة اللي يروح ما يرجعش كانت أيضا من طرقه المفضلة لما توفره له من أخطار تشعره بالتحدي وبجمال الحياة، ويجعل من الوصول لست الحسن والجمال هدفا يستحق ما يقابله الإنسان من متاعب. أما أسوأ الطرق في الدنيا فهو طريق الندم، إنه طريق الجماعات الثورية التي تعمل ليس من أجل كل البشر بل لخير جماعتها فقط وهو ما يعزلها عن الحياة ذاتها، هؤلاء لا يتحركون بدافع من الحب بل بضغط الكراهية فقط. هؤلاء فقط هم من يعرفون الندم ويخجلون من إعلانه فيما عدا أصحاب العقول القوية من المتطرفين السابقين الذين اكتشفوا خطأ ما ارتكبوه من جرائم من قبل. ست الحسن والجمال ليست أنثي طاغية السحر، إنها الفكرة الصحيحة التي بتحققها تتحقق حياة البشر، والشاطر حسن لا ينتمي لجماعة الشطار التي تشطر جيوب الناس لتسرق ما بها من فلوس، بل هو شاطر من الشطارة أي.. من الكفاءة.. أنا أطلب منك أن تكون أكثر كفاءة مما أنت عليه الآن، وابتعد عن سكة الندامة.. وامش كما يحلو لك في سكة السلامة أو حتي في سكة اللي يروح ما يرجعش، من المؤكد أنك ستقابل ست الحسن والجمال في محطة الوصول، وحتي لو لم يحدث ذلك فمن المؤكد أنك استمتعت بالرحلة.