حزب العدل يشارك في قداس عيد القيامة بالكاتدرائية المرقسية    عيار 21 بكام بعد الارتفاع الجديد؟.. أسعار الذهب والسبائك اليوم الأحد 5 مايو 2024 بالصاغة    بعد معركة قضائية، والد جيجي وبيلا حديد يعلن إفلاسه    أسعار السمك اليوم الأحد 5-5-2024 بعد مبادرة «خليها تعفن»    بورصة الدواجن اليوم.. أسعار الفراخ والبيض اليوم الأحد 5 مايو 2024 بعد الارتفاع    هل ينخفض الدولار إلى 40 جنيها الفترة المقبلة؟    حملة ترامب واللجنة الوطنية للحزب الجمهوري تجمعان تبرعات تتجاوز 76 مليون دولار في أبريل    عاجل.. رعب في العالم.. فيضانات وحرارة شديدة ومئات القتلى بسبب تغير المناخ    تظاهر آلاف الإسرائيليين بتل أبيب للمطالبة بوقف إطلاق النار في غزة    علي معلول: تشرفت بارتداء شارة قيادة أعظم نادي في الكون    أحمد مصطفى: نُهدي لقب بطولة إفريقيا لجماهير الزمالك    العمايرة: لا توجد حالات مماثلة لحالة الشيبي والشحات.. والقضية هطول    الأرصاد: انخفاض مفاجئ في درجات الحرارة.. وشبورة مائية كثيفة صباحًا    تشييع جثمان شاب سقط من أعلي سقالة أثناء عمله (صور)    توقعات الفلك وحظك اليوم لكافة الأبراج الفلكية.. الأحد 5 مايو    كريم فهمي: لم نتدخل أنا وزوجتي في طلاق أحمد فهمي وهنا الزاهد    تامر عاشور يغني "قلبك يا حول الله" لبهاء سلطان وتفاعل كبير من الجمهور الكويتي (صور)    حسام عاشور: رفضت عرض الزمالك خوفا من جمهور الأهلي    ضياء رشوان: بعد فشل إسرائيل في تحقيق أهدافها لا يتبقى أمام نتنياهو إلا العودة بالأسرى    عمرو أديب ل التجار: يا تبيع النهاردة وتنزل السعر يا تقعد وتستنى لما ينزل لوحده    مصطفى بكري: جريمة إبراهيم العرجاني هي دفاعه عن أمن بلاده    البابا تواضروس يصلي قداس عيد القيامة في الكاتدرائية بالعباسية    حسب نتائج الدور الأول.. حتحوت يكشف سيناريوهات التأهل للبطولات الأفريقية    مختار مختار ينصح كولر بهذا الأمر قبل نهائي إفريقيا أمام الترجي    الآلاف من الأقباط يؤدون قداس عيد الميلاد بالدقهلية    محافظ الغربية يشهد قداس عيد القيامة بكنيسة مار جرجس في طنطا    مصرع شاب غرقا أثناء الاستحمام بترعة في الغربية    إصابة 8 مواطنين في حريق منزل بسوهاج    رئيس قضايا الدولة من الكاتدرائية: مصر تظل رمزا للنسيج الواحد بمسلميها ومسيحييها    كاتب صحفي: نتوقع هجرة إجبارية للفلسطينيين بعد انتهاء حرب غزة    احتجاج مناهض للحرب في غزة وسط أجواء حفل التخرج بجامعة ميشيجان الأمريكية    الزراعة تعلن تجديد اعتماد المعمل المرجعي للرقابة على الإنتاج الداجني    اليوم.. قطع المياه عن 5 مناطق في أسوان    مكياج هادئ.. زوجة ميسي تخطف الأنظار بإطلالة كلاسيكية أنيقة    دار الإفتاء تنهي عن كثرة الحلف أثناء البيع والشراء    حكم زيارة أهل البقيع بعد أداء مناسك الحج.. دار الإفتاء ترد    صناعة الدواء: النواقص بالسوق المحلي 7% فقط    أبو العينين وحسام موافي| فيديو الحقيقة الكاملة.. علاقة محبة وامتنان وتقدير.. وكيل النواب يسهب في مدح طبيب "جبر الخواطر".. والعالم يرد الحسنى بالحسنى    عاجل.. مفاجأة كبرى عن هروب نجم الأهلي    هل يجوز السفر إلى الحج دون محرم.. الإفتاء تجيب    عبارات تهنئة بمناسبة عيد شم النسيم 2024    تساحي هنجبي: القوات الإسرائيلية كانت قريبة جدا من القضاء على زعيم حماس    رئيس جامعة دمنهور يشهد قداس عيد القيامة المجيد بكاتدرائية السيدة العذراء    محافظ القليوبية يشهد قداس عيد القيامة المجيد بكنيسة السيدة العذراء ببنها    نميرة نجم: حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها غير موجود لأنها دولة احتلال    سعاد صالح: لم أندم على فتوى خرجت مني.. وانتقادات السوشيال ميديا لا تهمني    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    صيام شم النسيم في عام 2024: بين التزام الدين وتقاطع الأعياد الدينية    بعد الوحدة.. كم هاتريك أحرزه رونالدو في الدوري السعودي حتى الآن؟    عوض تاج الدين: تأجير المستشفيات الحكومية يدرس بعناية والأولوية لخدمة المواطن    لطلاب الثانوية العامة 2024.. خطوات للوصول لأعلى مستويات التركيز أثناء المذاكرة    محافظ بني سويف يشهد مراسم قداس عيد القيامة المجيد بمطرانية ببا    رسالة دكتوراة تناقش تشريعات المواريث والوصية في التلمود.. صور    نجل «موظف ماسبيرو» يكشف حقيقة «محاولة والده التخلص من حياته» بإلقاء نفسه من أعلى المبنى    شديد الحرارة ورياح وأمطار .. "الأرصاد" تعلن تفاصيل طقس شم النسيم وعيد القيامة    المنيا تستعد لاستقبال عيد القيامة المجيد وشم النسيم    مهران يكشف أهمية استخدام الذكاء الاصطناعي في التأمين    من القطب الشمالي إلى أوروبا .. اتساع النطاق البري لإنفلونزا الطيور عالميًا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هيكل.. طاغية التلفيق.. والرؤية القاصرة للتاريخ
نشر في روزاليوسف اليومية يوم 10 - 11 - 2009


ملاحظات علي تكوين مصر الحديث
ويعترف هيكل بالمعلومات قائلا بعد أن استعاد التفكير ثانية من دون أن يعترف بأخطائه السابقة.. فيقول: "نابليون يعني والصراع الفرنسي البريطاني علي تخومي وعلي بحاري بيكبس ودولة الخلافة الحامية بتقع، الأمة علي نحو ما.. بلاش الأمة عشان ما حدش يزعل هذه المجتمعات اللي عايشة في هذا الفضاء، في هذا الفراغ، في هذه الساحة الجغرافية والتاريخية بتبحث عن حاجة، محمد علي جاء عمل إمكانية إنه والله العرب دون أن ينسلخوا يبقوا يعملوا حاجة مستقلة فجاء في مصر بدأ في مصر ثم أدرك بحسه الاستراتيجي راح الشام كمل الشام لأنه يدرك إنه ما فيش حاجة اسمها مصر لوحدها، لأنه هذا الإقليم زي كل أقاليم العالم عومل باستمرار وتصرف باستمرار وتعرض باستمرار لكل.. (نص هيكل).
كنت أود من هيكل أن يستخدم أداة التاريخ ولو لمرة واحدة ويعترف بأن بونابرت وحملته كان لهما تأثير تاريخي بالغ علي مصر الحديثة في القرن التاسع عشر وتكوينها المعاصر إبان القرن العشرين.. ونقول بونابرت وليس نابليون، لأن الأخير لم يتسم بنابليون إلا بعد أن غدا زعيمًا لفرنسًا وتوّج نفسه امبراطورا باسم نابليون بونابرت. المهم أن دولة الخلافة (يقصد: السلطنة) لم تقع.
ولماذا غيرت الموجة يا هيكل عندما قفزت من استخدامك مصطلح "الأمة" إلي مصطلح
"المجتمعات"؟ ما هذا الذي سيزعل عليك إن استخدمت الأمة؟ أهكذا تخاف من منتقديك؟ ولكن ما الضير باستخدام مصطلح "الأمة" التي كانت تعيش ذاك الفضاء؟ في ذاك الفراغ؟ أي فراغ تقصد؟
كنت أتمني عليك أن توضّح مقاصدك بعناية وببساطة شديدة، فربما أفهمك بحكم تعاملي معك منذ سنين، ولكن آلاف الناس لا تفقه ما الذي تريد إيصاله إليهم.. أي فضاء؟ أي فراغ؟ وهل تقصد بالساحة الجغرافية والتاريخية مصر أم كل المنطقة؟
ثم تعترف بمكانة محمد علي باشا.. وما أحلاك هنا عندما تنسلخ عن كل الذي كتبته ونشرته ضد محمد علي باشا، فتأتي اليوم كي تغير رأيك.. وهنا أسجّل للتاريخ ولكل من يقرأ هيكل في المستقبل قراءة متمعنة أن يقارن بين رأيه القديم في محمد علي باشا وبين رأيه اليوم.. لقد أصبح محمد علي باشا يمتلك حسا استراتيجيا عند هيكل.. ولكن هيكل لا يدري لماذا امتد محمد علي باشا نحو الشام وكمل الشام.. فهل جاء ذلك نتيجة حسّه الاستراتيجي أم أن هناك عوامل تاريخية فرضت عليه أن يمتد باتجاهات مختلفة لم يذكرها هيكل، متمنيا علي القراء الكرام مراجعة كتابي: تكوين العرب الحديث، ط 2 (عمّان: دار الشروق للطباعة والنشر، 1997) وفيه تفصيلات موسعة عن امتدادات محمد علي باشا نحو السودان ونحو الجزيرة العربية ونحو البحر المتوسط ونحو بلاد الشام ومفاوضات فرنسا السرية معه للامتداد نحو الجزائر وهذه تفصيلات تاريخية لها عوامل معقدّة جدا لم تأت من خلال حس استراتيجي لمحمد علي باشا وحده!
فالمسألة ليست بلاد الشام لوحدها ياهيكل، بل توسيع نفوذ مصر علي يد محمد علي باشا إقليميا باتجاهات مختلفة.
حملة إبراهيم باشا علي الشام
دعونا نكمل الشوط مع ما قاله هيكل مسترسلا: "ولأنه كده تعرض للفواعل التي تصنع في إقليم زي الرياح اللي بتهب ومتقفش عند حدود سياسية، محمد علي أدرك أنه حتي لو أتكلم بمنطق الأمن المصري فهو بمنطق الأمن المصري ده بيطلع بره، حتي الكولونيل سيف سليمان باشا الفرنساوي وهو مع إبراهيم باشا في الجيوش المصرية في وقت محمد علي بيعرف الأمن المصري البحت أمن وادي النيل بأنه فوق عند نصيبين شمال الحدود التركية في شمال حلب، هنا الأمة بدت الناس اللي موجودين في هذه المنطقة بدوا يعمل حاجة ثانية، بدا يبقي في محمد علي وفر لهم حاجة مهمة قوي، محمد علي وفر واحد مركز مستقل يقوي دون أن ينسلخ عن الخلافة مركز مستقل ينشأ ويصنع ويجدد ويثقف.. " (نص هيكل).
يا عزيزي هيكل، لم يكن هناك حدود سياسية معترف بها حتي يدركها جيش ابراهيم باشا وهو يمتد نحو الشمال.. أي أمن مصري تتكلم عنه يا هيكل وأنت تؤرخ عهد محمد علي باشا بمثل هذه الطريقة السيئة؟ لقد كان هناك جيش واحد يقوده إبراهيم باشا انقسم إلي قسمين اثنين، فكيف جعلتها جيوشا مصرية؟ أي منطق تتكّلم به وأنت لم تقرأ تفصيلات حملة إبراهيم باشا التاريخية؟ هل كانت الحملة موجهة إلي بلاد الشام، أم أن محمد علي باشا أرسلها بعد الخلاف الذي دّب بينه وبين السلطان العثماني محمود الثاني؟ هل كانت خطط محمد علي باشا تقضي بأن يساوي المركز بالمحيط أم أنه حاول السيطرة من خلال مركزه علي المحيط؟
ومن قال لك يا هيكل: إن الناس الموجودين في هذه المنطقة كانوا راضين جدا علي الحكم الذي وقف إبراهيم باشا علي رأسه؟ أتمني أن تقرأ أكثر من أطروحة دكتوراه ورسالة ماجستير أجيزت كلها حول تفصيلات دقيقة عن تلك الحملة المصرية لتجد مدي بشاعتها وما فعلته بالسكان وخصوصا في سوريا.. وبأي منطق حكم إبراهيم باشا بلاد الشام؟
متمنيا أيضا عليك أن تقرأ الصورة الأخري لعلاقة مصر ببلاد الشام بعيدا عن العواطف القومية.. وستقف حتما علي النهاية المأساوية لجيش مصري تبعثر في الصحاري بعد أن فتكت به الأمراض بعد أن غاب قائده عنه.. فأي مركز مستقل هذا ينشأ ويصنع ويجدد ويثقف وقد رضخ محمد علي باشا لمشيئة قرارات مؤتمر لندن الشهيرة. لقد نجح محمد علي باشا في مصر، ولكنه فشل في كل امتداداته العسكرية وخصوصا حملته علي بلاد الشام التي جاءت لتختتم عهده الطويل.
رفاعة رافع الطهطاوي
يستمر هيكل في حديثه المليء بالفجاجة والمعلومات التاريخية الخاطئة وتوزيع التعابير الكبيرة المعاصرة وكأنه يتحدث عن دول تعيش حياتها اليوم.. وينتقل إلي موضوع آخر ساقه إليه استرساله الذي لا معني له أبدا.. فيقول متمما: "لما جاء رفاعة رافع الطهطاوي وعمل النهضة الفظيعة اللي عملها في التعليم وبدا لأنه مشروع محمد علي اقتضي أيضا التعليم والتعليم قام عليه هذا الفلاح، هذا الرجل اللي كان راح مع البعثة واحدة من بعثات محمد علي راح كإمام للبعثة ثم أصبح هو في واقع باعث نهضة، هذا الرجل الذي قرأ كل أدب وكل فكر وكل استنارة أوروبا ونقلها للغة العربية فبدا العالم العربي يكتشف أنه في مكان مستقل، في مكان يهرع إليه بآماله أو بطموحاته من سواء الإمبراطورية المتهاوية أو من الأطراف اللي عليها الضغوط الإمبراطورية من كل ناحية" (نص هيكل).
هل كان الطهطاوي وراء النهضة الفظيعة؟ وهل من العقل بمكان أن نصف النهضة بالفظاعة؟
أدرك أنه تعبير بلدي، ولكن يا عزيزي كيف بإمكانك استخدام هكذا تعابير جلفية؟ ما هذا التعبير وأنت لا تعرف كيف تركّب جملة مفيدة واحدة مشافهة. لقد تغّير الفلاح وأصبح رجلا نهضويا طموحا، ولا حاجة بنا أن نذكّر العالم، فليس الطهطاوي وحده تحول من فلاّح إلي مثقف عالي المستوي، بل تحّولت مصر من حالتها المملوكية القديمة إلي حالتها النهضوية الجديدة.. هذا الطهطاوي الذي ذهب في أول بعثة دراسية أرسلها محمد علي باشا إلي باريس ولما عاد أصبح باعث نهضة..
ولكن كيف يمكنك أن تجازف بالقول إن الطهطاوي قرأ كل أدب وكل فكر وكل استنارة أوروبا ونقلها للغة العربية؟ هل هذا كلام عقلاء؟ هل باستطاعة أحد باستثناء الطهطاوي أن يقرأ كل ما ذكرت؟ لنكن أذكياء في اختيار تعابيرنا أو أن نعلن إفلاسنا الفكري.. وكيف أستطاع الطهطاوي يا هيكل أن ينقل كل أدب وفكر واستنارة أوروبا؟ وكم نبهتك منذ سنين ألا تتسرع في إطلاق الأحكام جزافا! إنك تستغفل الناس التي لا تعرف الطهطاوي ومن هو الطهطاوي ولم تدرك أن له كتابات مختصرة عديدة أ أهمها: تلخيص الإبريز..
القاهرة: هل غدت قاعدة للتحديث؟
نتابع مع هيكل وأفكاره القاصرة التي سجلها رفقة معلومات خاطئة وأطلق من خلالها أحكامه جزافا.. إنه قرأ عموميات عن عهد محمد علي باشا ولم يتوغّل في أعماق تاريخ المرحلة.. ولم أجده أمينا حتي في نقل معلوماته الخاطئة.. إنه ضحية تاريخ طويل من سلق المعلومات وفبركة الأخبار وتسويق الشعارات.. دعوني أقدم لكم نصا له يقول فيه: "وبدأ ينشأ في القاهرة شيء ثاني، ظاهرة ثانية، سياسية اجتماعية ثقافية اللي ممكن نقوله، لكن في قاعدة للتحديث بدت تنشأ وسط العالم العربي وبدت تحل علي نحو ما محل أسطنبول، هي لا تنافس اسطنبول، ما كنتش بتنافسها، ما هياش عاصمة، ما هياش عاصمة خلافة، ما هياش عاصمة دولة بالعكس هي عاصمة دولة تابعة، دولة قبل حاكمها محمد علي سنة 1840 إنه والله ملكه وملك أبنائه هنا في الحدود المصرية، لكنه الحقيقة اللي خلقها الحقيقة السياسية اللي خلقها، الحقيقة التاريخية اللي خلقها، الحقيقة الثقافية اللي خلقها أدت في مصر وضع خاص نشأ في القرن التاسع عشر ثم وهذه هي الأهم العالم العربي كله ساهم في صنع" (نص هيكل) تعالوا معي أيها الناس نقف وقفة نقدية معمقة علي النص في أعلاه وهو يتحدث عن القاهرة قاعدة للتحديث.. فعلا إنها غدت قاعدة لتحديث البلاد المصرية، ولا يمكنها أبدا أن تحّل محل اسطنبول.. ثم يرجع بعد أن أدرك خطأ ما قاله ليقول إن القاهرة لا تنافس اسطنبول باعتبارها عاصمة خلافة (ولا أدري ما هذه الخلافة التي سيطرت علي أفكار الناس وهما وخيالا لا حقيقة وواقعا ابدا).
لقد بقيت اسطنبول عاصمة للدولة وقاعدة لكل القوانين الإصلاحية والدستورية التي صدرت فضلا عن أنها بقيت قاعدة جاذبة لكل الطلبة العرب الذين درسوا في أروقة كلياتها ومعاهدها المدنية والعسكرية سواء كانوا من العراق أم من بلاد الشام والحجاز.. صحيح أن محمد علي باشا قد خلق حقائق تاريخية وسياسية وثقافية.. ولكنه فشل في امتداداته الحربية ونفقاته العسكرية.. صحيح أنه كان وراء خلق مصر الحديثة، لكنه بنفس الوقت لم يستطع مجابهة التحديات التي ألمّت به.. إننا بالقدر الذي نعطي لمحمد علي باشا مكانته التاريخية، ولكننا لابد أن نعترف بأن محمد علي باشا كان مصلحا من طراز رفيع ولم يكن تحديثيا فلسفته التغيير الجذري..
هل هي لحظة الحقيقة حقا؟
تحت باب "معالم تجربة حياة حافلة بالأحداث الجسام"، يعود هيكل ليتحدث عن نفسه وكأنه في موقع الدفاع عن أخطاء ارتكبها أو مفاهيم يؤمن بها.. وكأنه ينفي عنه كل ما وجه إليه من حقائق دامغة ليصر علي أنه المالك الوحيد للحقيقة خصوصًا عندما يتعّلق الأمر به.. ولقد حصر شأنه بثلاثة أساسيات عن تجربته في ستين سنة، هي: العمل الصحفي والعمل السياسي ومتابعة العالم كما كان في الوقت الذي عاشه.
إنني لا أعتني بعمله الصحفي، فتلك هي مهنة قام بها سواء نجح أم فشل فيها فهو ابن مرحلة ويعتبر جزءًا منها ولا يمكنه التنصّل عنها، أما العمل السياسي، فلا أدري ما الذي أنجزه هيكل في ذلك العمل وهل تدرج فيه ولماذا لم يصبح قيادًيا اللهم إلا أن كان عمله السياسي قد انحصر في الذي كلفه به كل من الرئيسين الراحلين جمال عبد الناصر وأنور السادات؟.
وفيما عدا ذلك، فلا أدري إلي أي تنظيم يحسب هيكل أو حتي إلي أي اتجاه ينتمي.. أما مسألة متابعته العالم كما كان في الوقت الذي عاشه، فهذه المتابعة قد أتت بعد أن أصدر عدة كتب وقد أصاب بها قليلاً وأخطأ فيها كثيرًا..
ولقد كنا في كتاب "تفكيك هيكل" قد أوضحنا مدي قدرة الرجل في ثلم الحقيقة والتشويش عليها، بل فبركة الموضوعات واختلاق المعلومات التي لا أصل لها والتلبيس والادعاء وسلخ السير الشخصية وإضفاء سمة التوثيق الكاذب.. الخ
إن ستين سنة من كتابات محمد حسنين هيكل سواء في كتابة المقالات الصحفية، أم في تأليف الكتب العادية.. تطلعنا كلها علي شخصية سيكولوجية مازوشية معقّدة علي أتم ما يمكن وصفه من تعقيد خصوصًا عندما يتناول القضايا المعاصرة خصوصا العربية منها.. دعوني أتوقف هنا معه علي ما وصفه ب"القصة الحقيقية"، لنري كم كان دفاع الرجل واهيا عن نفسه، وكم هو مصر إصرارًا غير ذي فائدة علي اتباع المنهج الخاطئ نفسه في افتراض الأشياء والتصديق بها وبناء معلومات وآراء عليها وهذا نتاج عقلية متمرسة منذ ستين سنة علي التخمينات وجعلها حقائق وإشاعتها بين الناس.. والناس يصدقونها طبعًا لأنهم يعتبرونها قضايا موثّقة ومثبتة المعلومات.. وهذا هو سر نجاح هيكل في خداع التفكير العربي المعاصر.. إن تعرية مثل هذا الكائن العجيب الذي له القدرة، وهو بهذا العمر، علي ممارسة هذا النوع من الخداع في اقتناص الفرص السانحة لضرب ضرباته ضد هذا أو ذاك قد خلق منه طاغية في التلفيق سواء علي مستوي المشافهة أو مستوي التحرير..
ماذا أقول لهيكل؟
من السهولة جدا أن تتكلم ما تشاء عن تاريخ مصر الحديث ولكن من الصعب جدا أن تدافع عما تقول.. من السهولة جدا أن تشّوه تكوين مصر الحديث، ولكن من الصعب جدًا أن تصحح ما قمت به من أخطاء! كونك لا تمتلك أي منهج في الدراسة التاريخية، ولم تستطع أن تسبر أغوار ما أنتجه المؤرخون المصريون علي امتداد مائة سنة. إن تاريخ مصر الحديث لا يمكن لأي أحد أن يكتب فيه إن لم يتمكن من أدواته ومعلوماته الموثقة لا أن يأتي لكي يسقط وجهات نظره السياسية. من السهولة عليك أن تتكلم ما تشاء كونك تنطلق من زاوية أحادية معروفة للقاصي والداني.. ولكنك ملزم بالاستئناس لما كتبه العديد من مؤرخي مصر الكبار حتي تتعلم منهم، كونهم يدركون ما لم تدركه أنت نفسك، خصوصًا، انهم لم يجعلوا من أنفسهم مراكز ثقل لهذا التاريخ في حين قد جعلت نفسك محوراً في داخل هذا التاريخ.
إن من أهم الشروط التي ينبغي علي المؤرخ الالتزام بها: عدم إشراك نفسه في صناعة الحدث التاريخي، أو جعل نفسه وصيا علي تاريخ معين، أو عهد معين، أو حكم معين.. فإن أخل المؤرخ بشروط الكتابة التاريخية سواء علي مستوي المنهج أو التفسير في أحاديثه أو تآليفه المتعددة، وهو مسئول عنها، فكيف يمكننا الاطمئنان إلي أحكامه واستنتاجاته؟. ويكبر الخطأ مرات ومرات، خصوصا، إذا ما أصبح التاريخ حكائيا علي شاشات التليفزيون، فالتاريخ المرئي له شروطه أيضًا، تلك الشروط التي استحدثتها مناهج الدراسات المتقدمة في أقسام الإعلام المرئي والتي سأحدد بعض ملامحها لاحقًا. إن هيكل الذي اعتاد أن يخرج علينا أسبوعًيا ليتنقل حسبما يشاء من مساحة تاريخية إلي أخري حكائيا متحدثًا لا كاتباً مؤرخاً.. يخرج من دون أي التزام منهجي، فإن المؤرخ الجاد والناقد الأكاديمي يجده يشتط كثيرًا من دون تحديد المسارات التي يجب الالتزام بها..
انتظروا الحلقة القادمة
الكاتب مفكر عربى عراقى مقيم فى كندا
وأستاذ فى جامعات عربية وأمريكية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.