في زمن سحيق من القرن الماضي كان الأساتذة الكبار من أمثال الدكتور زكريا إبراهيم يكتبون عن مشاكل فلسفية كبيرة مثل مشكلات الحرية، والإنسان، والفن، والفلسفة، والحب، والأخلاق، والحياة، والبنية.. أما الآن فنحن نكتب عن مشاكل تعليمية تربوية تبدو بسيطة ولكن أثرها المجتمعي كبير جدا جدا.. فقد كتبت بالأمس عن مشكلة القراءة واليوم أتطرق لمشكلة أخري يعاني منها أبناؤنا وهي مشكلة الاستماع.. والمقصود بمشكلة الاستماع هي عدم قدرة الكثيرين منا علي الاستماع والانصات لما يقوله الآخرون.. وتتمثل أعراض المشكلة في عدم القدرة علي التمييز بين الوقت المخصص للكلام والوقت المخصص للاستماع لما يقال حتي يمكن للمناقشة أن تنتظم.. وحتي إذا أُجبِر طرف علي السكوت انتظاراً لما يقوله الطرف الثاني، فهو لا يستمع ولا ينصت إليه بل تجده، حين يسمَح له بالكلام، يتحدث عن فكرة أخري لا ترد علي ما قاله الطرف الأول!! ويتمثل العرض الثالث للمشكلة في عدم تركيز الحاضرين في المحاضرات أو الندوات العامة فيما يسمعون من المتحدث الرئيسي وغيره.. بل وتنتشر ظاهرة النوم العميق في كثير من تلك المحاضرات.. وللمشكلة جذور تربوية تعليمية مثل مشكلة القراءة تماما.. فلا يحتوي نظامنا التعليمي الآن علي تنمية مهارات الاستماع عند التلاميذ علي الإطلاق.. وأعود بالمشكلة إلي دراسة اللغة كما هو الحال في مشكلة القراءة أيضا.. إذ أن البداية تكمن في هذه المرحلة وهذه العلوم اللغوية.. فلا نستخدم أبداً مادة مسموعة في التعليم.. وتجد أن دروس الاستماع في كتب تعليم اللغات الأجنبية غالبا ما يتم إهمالها تماما.. ويبقي الطالب حتي يحصل علي الثانوية العامة دون أن يستمع، أو يجيب عن أسئلة تعتمد علي سماع، ولو نص واحد باللغة الانجليزية، التي بدأ يدرسها في الصف الأول الابتدائي - حسب النظام الحالي!! كما لا نقوم بجلب أي مادة علمية أو ثقافية للأبناء في صورة محاضرة يستمعون إليها ثم نناقشهم فيها.. وقد يعترض البعض علي أن أسلوب المحاضرة قديم عتيق وقد تم استبداله بورش العمل والندوات وغير ذلك من الأساليب التعليمية الجديدة.. وأقول لهؤلاء أن الأساليب الجديدة أضيفت إلي التعليم لا لتلغي القديم بل لتوفر تنوعا محموداً في طرق التعليم.. ولذلك لا ينبغي أن يأتي النت علي القراءة ولا إن تكون المناقشة منافساً للمحاضرة.. بل إن العكس هو الصحيح، لأننا نتعلم من الاستماع أن نأخذ المعلومات بآذاننا من ناحية، ومتي نتكلم ومتي نستمع من ناحية أخري.. ينبغي النظر إلي هذه المشكلة بعين الاعتبار لأنها تتفشي بصورة خطيرة ومن السهل ملاحظة انتشارها بالمرور علي برامج (التوك شو) كل مساء من السبت إلي الأربعاء.. فلن تجد - إلا في القليل النادر - متحاورين، بل متكلمين غير سامعين.. والجميع يتحدث في وقت واحد ويصرخ في وقت واحد: المحاور والضيوف.. والتعليم هو الحل ففيه تكمن جذور تلك المشاكل وفيه حلها أيضا.. متي سنبدأ؟