مازالت روائح أشجار التوت تملأ أنفي، مازالت الأزهار الحمراء والبيضاء والبنفسجية في حدائق قصر القبة لم تذبل بعد، النباتات التي تريد أن تصبح أشواكا جارحة، تحاول حتي الآن، ملاعب مدرسة النقراشي النموذجية الثانوية كأنها امرأة هربت برفقة عشيقها، نخلة وحيدة عارية تماما تصل إلي السماء، أثداء النخلة مليئة ومترعة، هذه مشية هانم ذات الأصابع الستة، سوسن تجلس في كافيتريا الهيلتون، وتقرأ الصحف، وتدخن الشيشة، وعلي كرسي أمامها رواية لأناييس نن، في كل مكان أصل إليه، أجد الله قد سبقني، في كل مكان أصل إليه أجد مختلف الصداقات والعداوات والشكوك، ومختلف الذباب، هذه هي القاهرة مدينتي، أحببت الإسكندرية، وعشقت بيروت، ومشيت وراء نساء مراكش، وحذرتني المنامة من عيون أهلها، ورأيت هنادي وخالدة في جبلة، وأحسست بجلال استانبول وغرورها، ونمت علي ذراع باريس ربما عشر مرات ولكنها لم تهدهدني، كما كنت أحلم، لسعني برد أمستردام، وتهت في روما، وكرهت الدارالبيضاء، وتآلفت مع دمشق، وأصابتني الغيرة والحيرة من حصون حلب، وكمنت في حضن برلين البارد وراغبا ألا يعرفني أحد، ومع ذلك ظلت القاهرة مديني، سماؤها صارت منذ سنوات مضت مثل نعل حذاء، شعرها الأبيض مليء بالقمل، أظافرها طويلة ومتسخة، كثيرا ما اضبطها تهرش شعرها، أو تنكش باطن أنفها، صباح كل جمعة تأتي المرأة العجوز لتنظف منزلي الصغير، زوجتي تفضل ألا أكون موجودا، صباح كل جمعة، أحسست كأنني علي موعد، كأنني أنتظر القاهرة، أو أذهب إليها، أقابلها في ميدان طلعت حرب، الميدان الذي أصيب أكثر من مرة بالحصبة، الذي أصيب أكثر من مرة بالأنيميا والجدري والتيفود وحمي النفاس، عرفته أيام كان ميدان سيلمان باشا الفرنساوي، تعلمت ألا أقف علي أحد أرصفته، أن أحس كأنني طائر صغير فوق راحة يده، ولما أرفع رأسي إلي أعلي، أتهيج، وأزيح لوحات الإعلانات وأتخيل البيوت تحمل حول أعناقها باقات زهر أرجواني، أو ساعات كبيرة، وتعلن عن مواعيد الفرح، ومواعيد الخيبة، ومواعيد شروق الشمس، ومواعيد غروبها، وأتخيل أبي بجلبابه الواسع، وعمامته، ولسانه المغسول في الابتهالات والأدعية، أتخيله يحمل عشرين كيلوجراما من حبات الذرة، مكبوسة في كيس أبيض من البفته، ويعبر الميدان، ثم يقف، ويدخل يده في الكيس ويحفن حفنة وينثرها، وهكذا، حتي تهبط الطيور وتملأ الميدان، يصعد أبي إلي أسطح العمارات، ويحفن وينثر، حتي تمتلئ الأسطح بالطيور الوافدة من بعيد، ويفكر بعد أن يصبح كيسه فارغا كيف ستستقبله أمي، القاهرة مديني، جسدي يتسع لتسكنه كائنات كثيرة، البنت التي في أقصي أنحاء جسدي، التي تهتف بأعلي صوت: يا حبيبي، لا تقصدني، البنات الأخريات المزروعات بداخلي، أرواحهن مهاجرة إلي أماكن بعيدة، كأنني وحيد، في مقهي علي بابا جلست مع مها، في الدور الثاني وأمسكت يدها، ونظرت في عينيها، وارتعشت، في شارع الشواربي وضعت يدي علي ظهر ناهد، في شارع المنيل تكرر توصيلي لمها الأخري إلي منزلها، ناريمان رفضت أن تنظر باتجاهي في كل الأماكن، في طفولتي صحبني جدي لأمي، وزرنا كل مقابر آل البيت، وفي مراهقتي كنت أقوم بهذه الرحلة إما وحيدا أو مع رفيق، المدن الأخري، النظيفة، بها غابات، بها رجال قليلو الكلام، بها آلات موسيقية، بيانو وكمان وجيتار، بها دو ري مي فاصولا سي، المدن الأخري محشودة بألوان جميلة وكتب ومتاحف وتروموايات وذكريات حروب، محشودة بسيقان صبية متعجلة، وسيقان عجوزة تتحشرج في الطرقات، فيحترمها الجميع حتي تعبر في هدوء، المدن الأخري قد تجبرني علي ارتكاب المشاعر الحادة، كأن أشفق علي مدينتي، كأن أغضب منها، أشتمها وأسبها، أقول لها: كيف تهملين خصلات شعرك، كيف لا تغتسلين كل يوم، فإذا أحنت رأسها خجلا، قبَّلتُ رأسها مثل مذنب، واسترضيتها مثل مذنب، وغسلت قدميها بأنفاسي، وإذا شكت لي من سوء زمانها وزماني، سحبتها خلفي إلي أزمنة أخري غابرة، كي لا أكرهها، أعترف أنها علمتني أن أحتال عليها لكي يظل حبي لها ساخنا، علمتني أن أقول لها: يا أمي، ولأن أمي لابد أن تصير عجوزا في آخر الأمر، فقد فاخرت بأمي الثانية، لأنها أم لا تموت، وإذا أصبحت كل نساء الأرض عاهرات، فأمي هي المرأة التي لن تكون في نظري عاهرة أبدا، ناديتها: يا أمي الخالدة، القاهرة مدينتي، ولدت بهذه البشرة، بهذا الطول، بهذا العنق، بهاتين الشفتين، ولدت بهذا المكر، بهذه الطيبة، بهذه الخيبة، ولدت أيضا بهذه المدينة، بهذه السماء، بهذه الأرض، بهذا المدي الشاسع من الذكريات والتواريخ، عرفت أنها نصيبي، أحببت من يحبونها، وعذرت من يكرهونها، في الفجر ابتهج وأنا أراها كأنها مئذنة المدن، فأتسلقها، وأراها في الظهيرة أطول من كل صاحباتها وعدّواتها، وأراها في الصيف محمية بصوتها الذي كثيرا ما وقف شامخا أمام الأعداء، صوتها الذي كثيرا ما قال: لا، الليل في مدينتي أجرب، وذيله مقصوص، ومع ذلك أحب هذا الليل الأجرب، الليل في مدينتي لا ينام، لأن الآلهة القديمة حكمت عليه بالسهر الدائم، النهار أيضا أجرب، أيضا ذيله مقصوص، تعلم أن يتمدد فوق الأرض، وألا يشبع من دفء الشمس، وأن يفتح فمه، ويناديني بأسماء محبوباتي، وأن يعض قلبي إذا لزم الأمر، لا تحدثني عن الكرز يا نبيلة أمامي، خذي نصيبك فقط يا نادية، أسنانك بيضاء جدا يا إنعام، لماذا تتساقط حبات العنب من فمك يا ليلي، هكذا كان يعض قلبي، في النهار أو في الليل، أمر علي أحد البيوت، وأقول ربما كان هذا هو البيت الذي عشت فيه، قبل أن أوجد علي الأرض التي لم تكن مخلوقة بعد، عندما كان كل شيء قمرا أو حجرا أو ظلمة، ربما كان هذا الحجر، في ذلك الزمان، بيتي، وكانت نافذتي عينين لي، وقبل أن أفرح بما قلته، اكتشفت أن بابلو نيرودا الذي يطاردني منذ أيام سبقني وقاله، فأخفي وجهي في ذيل فستان مديني، وأستمر في النظر إلي البيوت، القاهرة مدينتي، ها هي مليئة بالصراخ والمطابخ، مليئة بالنمش، نيرودا يطاردني، ناظم حكمت، صلاح جاهين، إبراهيم ناجي، كلهم يطاردونني، أيها المسافر، رجلا كنت أم امرأة، عندما أكف عن الحياة، فيما بعد، فتش هنا، فتش عني ذات يوم، لأني ساأعود دون أن أقول شيئا، بلا صوت، بلا فم، صافيا، ساأعود إلي هنا، لأكون حركة الماء، قلية المتوحش، ساأكون مفقودا، وملقيا، فلربما صرت هنا، حجرا وصمتا، القاهرة جغرافياي الأصيلة، جغرافياي الأم التي لا بديل لها.