البابا تواضروس يغسل أرجل الكهنة في «خميس العهد» بالإسكندرية (صور)    رئيس اتحاد القبائل العربية يكشف أول سكان مدينة السيسي في سيناء    10 آلاف دارس.. الأزهر: فتح باب التقديم لقبول دفعة جديدة برواق القرآن    المجلس القومي للطفولة والأمومة يطلق "برلمان الطفل المصري"    وزير الزراعة يلتقى مع المدير التنفيذي للمجلس الدولى للتمور ويبحث معه التعاون المشترك    وزيرة الهجرة تعلن ضوابط الاستفادة من مهلة الشهر لدفع الوديعة للمسجلين في مبادرة السيارات    الموارد المائية تؤكد ضرورة التزام الفلاحين بزارعة الأرز في المناطق المقررة فقط    دعم توطين التكنولوجيا العصرية وتمويل المبتكرين.. 7 مهام ل "صندوق مصر الرقمية"    «التنمية الحضرية»: تطوير رأس البر يتوافق مع التصميم العمراني للمدينة    فيديو.. شرطي أمريكي يبصق على علم فلسطين خلال قمع حراك طلابي    زيلينسكي: روسيا استخدمت أكثر من 300 صاروخ و300 طائرة دون طيار وأكثر من 3200 قنبلة في هجمات أبريل    شيخ الأزهر ينعى الشيخ طحنون بن محمد آل نهيان    مصدر رفيع المستوى: تقدم إيجابي في مفاوضات الهدنة وسط اتصالات مصرية مكثفة    «انتقد جماهير القلعة الحمراء».. نجم تونس السابق: صن دوانز أقوى من الأهلي    كولر يعالج أخطاء الأهلي قبل مواجهة الجونة في الدوري    شوبير يكشف مفاجأة عاجلة حول مستجدات الخلاف بين كلوب ومحمد صلاح    بعد صفعة جولر.. ريال مدريد يخطف صفقة ذهبية جديدة من برشلونة    كشف ملابسات فيديو الحركات الاستعراضية لسائقين بالقاهرة    كشف ملابسات فيديو التعدي على سيدة وزوجها بالقليوبية    حار نهارًا.. «الأرصاد» تكشف حالة الطقس اليوم الخميس 2-5-2024 ودرجات الحرارة المتوقعة    ضبط المتهم بإدارة ورشة لتصنيع وتعديل الأسلحة النارية بالبحيرة    تحرير 30 محضرًا تموينيًا في الأقصر    الأمن تكثف جهوده لكشف غموض مق.تل صغيرة بط.عنات نافذة في أسيوط    مهرجان الجونة السينمائي يفتح باب التسجيل للدورة السابعة من منصة الجونة السينمائية    مسلسل البيت بيتي 2 الحلقة 3.. أحداث مرعب ونهاية صادمة (تفاصيل)    كلية الإعلام تكرم الفائزين في استطلاع رأي الجمهور حول دراما رمضان 2024    رئيس جامعة حلوان يكرم الطالب عبد الله أشرف    هل تلوين البيض في شم النسيم حرام.. «الإفتاء» تُجيب    وزيرة التضامن الاجتماعي تكرم دينا فؤاد عن مسلسل "حق عرب"    وائل نور.. زواجه من فنانة وأبرز أعماله وهذا سبب تراجعه    محافظ الجيزة يستجيب لحالة مريضة تحتاج لإجراء عملية جراحية    الرعاية الصحية والجمعية المصرية لأمراض القلب تطلقان حملة توعوية تحت شعار «اكتشف غير المكتشف» للتوعية بضعف عضلة القلب    120 مشاركًا بالبرنامج التوعوي حول «السكتة الدماغية» بكلية طب قناة السويس    وزير الخارجية السعودي يدعو لوقف القتال في السودان وتغليب مصلحة الشعب    هيئة الجودة: إصدار 40 مواصفة قياسية في إعادة استخدام وإدارة المياه    الانتهاء من تجهيز أسئلة امتحانات نهاية العام لطلاب النقل والشهادة الإعدادية    وزير المالية: الخزانة تدعم مرتبات العاملين بالصناديق والحسابات الخاصة بنحو 3 مليارات جنيه    التنظيم والإدارة يتيح الاستعلام عن نتيجة الامتحان الإلكتروني في مسابقة معلم مساعد فصل للمتقدمين من 12 محافظة    منها إجازة عيد العمال وشم النسيم.. 11 يوما عطلة رسمية في شهر مايو 2024    مدرب النمسا يرفض تدريب بايرن ميونخ    بنزيما يتلقى العلاج إلى ريال مدريد    محامي بلحاج: انتهاء أزمة مستحقات الزمالك واللاعب.. والمجلس السابق السبب    رئيس الوزراء: الحكومة المصرية مهتمة بتوسيع نطاق استثمارات كوريا الجنوبية    لمواليد 2 مايو.. ماذا تقول لك نصيحة خبيرة الأبراج في 2024؟    حادث غرق في إسرائيل.. إنقاذ 6 طلاب ابتلعتهم أمواج البحر الميت واستمرار البحث عن مفقودين    المفوضية الأوروبية تقدم حزمة مساعدات للبنان بقيمة مليار يورو حتى عام 2027    كوارث في عمليات الانقاذ.. قفزة في عدد ضحايا انهيار جزء من طريق سريع في الصين    سؤال برلماني للحكومة بشأن الآثار الجانبية ل "لقاح كورونا"    أبرزها تناول الفاكهة والخضراوات، نصائح مهمة للحفاظ على الصحة العامة للجسم (فيديو)    تشغيل 27 بئرا برفح والشيخ زويد.. تقرير حول مشاركة القوات المسلحة بتنمية سيناء    هئية الاستثمار والخارجية البريطاني توقعان مذكرة تفاهم لتعزيز العلاقات الاستثمارية والتجارية    دعاء النبي بعد التشهد وقبل التسليم من الصلاة .. واظب عليه    التضامن: انخفاض مشاهد التدخين في دراما رمضان إلى 2.4 %    صباحك أوروبي.. حقيقة عودة كلوب لدورتموند.. بقاء تين هاج.. ودور إبراهيموفيتش    هل يستجيب الله دعاء العاصي؟ أمين الإفتاء يجيب    عميد أصول الدين: المؤمن لا يكون عاطلا عن العمل    حكم دفع الزكاة لشراء أدوية للمرضى الفقراء    مظهر شاهين: تقبيل حسام موافي يد "أبوالعنين" لا يتعارض مع الشرع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خبط وخلط وخبص.. مسخ وسلخ ونسخ! الخديو إسماعيل وكيف شوهّت صورته!
نشر في روزاليوسف اليومية يوم 25 - 10 - 2009

جاء الآن دور الخديو إسماعيل كي يحكم محمد حسنين هيكل علي مشروع الخديو النهضوي حكما ظالماً، ويعتبره مجرد "أوهام"! وعليه، لم يقتصر كلامك الواهن عن محمد علي باشا يا أستاذ هيكل، إذ نال الخديو إسماعيل من ذلك أيضا عندما تستطرد عنه وتقول: "حتي مع أوهام الخديو إسماعيل ماكنش جامع الخلافة.. يعني محمد علي كان راجل عنده حلم عظيم، الخديو إسماعيل حلم استراتيجي عظيم، الخديو إسماعيل كان عنده حلم وهم ثقافي كبير لأنه صور له أن المنطقة ممكن تخرج أو أن مصر ممكن تخرج من المنطقة اللي هي فيها جغرافيا وتلتحق بأوروبا فبقت مصر قطعة من أوروبا، هذه في اعتقادي كانت رغبة في الوصول إلي التمدين والتقدم ولكنها لم تكن، بالمعني الإنساني والتاريخي، انسلاخاً عن المنطقة والدليل أن عصر إسماعيل في واقع الأمر شاف ظاهرة مهمة جدا، اللي هي ظاهرة ظهور القاهرة في هذا الإطار الأوسع والأكبر.."
انتهي النص.
وتتحدث عن الخديو إسماعيل كونه صاحب حلم استراتيجي عظيم بعد أن كنت نفسك قد ساهمت بتشويه صورة الخديو إسماعيل التاريخية قبل أربعين سنة.. لقد أساء الكتبة والإعلاميون والمثقفون حتي الفنانون المصريون لتاريخ الخديو إسماعيل.. لقد شوّهت سنوات عهده الطويل بشكل متعمّد.. بل كثيرا ما وجدنا صورة مشوّهة له من قبل الإعلام المصري الناصري حتي السينما المصرية عن قصد وسبق إصرار.. ولم نسمع أو نقرأ لمحمد حسنين هيكل في يوم من الأيام أنه دافع عن الصورة المخزية التي رسمت للخديو إسماعيل علي عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر ظلماً وعدوانا.. واليوم يأتي صاحبنا ليقول إن الخديو إسماعيل صاحب حلم استراتيجي كبير.. وبقدر ما ساهم هيكل في الماضي القومي بإدانة الخديو إسماعيل، أخذ الرجل يدافع عنه من دون أن يعترف بما فعلوه سلفا.
إنني أطالبه بأن يعلن لا عن تراجعه هو نفسه، بل أطالبه بأن يعلن عن اعتراف ما حدث للخديو وما حدث لحكام مصر من أسرة محمد علي باشا من تشويه وإطلاق أحكام جائرة.. وكلها علي عهد عبدالناصر، بل تربي جيل كامل علي كراهية تاريخ مصر النهضوي بسبب تشويه العهد العلوي بمصر.. وأطالب هيكل أيضا بأن يعلن باسمهم عن اعتذار مصري للخديو إسماعيل ومن جاء من بعده من حكام مصر بعد الذي نالوه من التقريع والتزوير والتشويه. والدليل أن هيكل اليوم يتراجع عن أفكاره وكتاباته القديمة وجاء إلينا ليقول إن مشروع إسماعيل لم يكن يرمي لانسلاخ مصر، بل لتمدن مصر.. وأن القاهرة وجدت تطورها واتساعها علي عهد ذاك الزعيم.
إنني أسأل: لماذا لم يتطرق هيكل إلي إنجازات إسماعيل باشا التي لا حصر لها؟ لقد حكم الخديو إسماعيل مصر 15 عاما، لفترة 1863- 1879م، وفي عهده افتتحت قناة السويس، فتغيرت خارطة العالم الاقتصادية، وحظي بمكانة دولية كبيرة.. لقد كان مشروع إسماعيل يهدف إلي تغيير مصر تغييرا كاملا، وجعلها كأي بلد أوروبي، وأن تكون مركز امبراطورية تمتد شرقاً وغربا ولكن جذورها في أعماق أفريقيا.. لقد نجح في تطوير مصر كثيراً حتي قال: "إن بلدي لم تعد في أفريقيا، نحن الآن أصبحنا جزءاً من أوروبا"، وهذا ما أدي إلي تسمية الخديو ب"إسماعيل الرائع"Ismail The Magnificent. صحيح أنه اقترض كثيراً، ولكنه لم يكن يدري أن مصر ستقع تحت طائلة الإفلاس، ولم يحدث هذا لمصر وحدها، بل حدث في الدولة العثمانية ودولة بايات تونس.. كنت أتمني أن يجرد هيكل نفسه، ويذهب ليقف عند الخديو إسماعيل وقفة منصفة، فمصر لم تلد زعيما واحداً، بل ظهر فيها عدة زعماء أقوياء ولهم خدماتهم وجهودهم في تحولاتها، ومنهم: محمد علي باشا وإبراهيم باشا والخديو إسماعيل وسعد زغلول وغيرهم..
منجزات الخديو إسماعيل
كنت أتمني علي هيكل أن يتوقف قليلاً عند منجزات الخديو إسماعيل، ومنها: حفر 112 ترعة بطول 13440 كيلومتراً؛ وبناء 400 كوبري ومد 480 كيلو متراً من خطوط السكك الحديدية، ونصب 8000 كيلو متر لخدمة التليغراف الذي كان قد اخترع حديثاً. وتحولت مصر إلي بلاد تمتد فيها سكك الحديد. وبدأ أيضاً في تحسين مياه الشرب وإنارة الشوارع، وتأسيس صناعة السكر، كما تأسست مصلحة البريد، وأجري الخديو إسماعيل بنفسه توسيع وإعادة تنظيم التعليم العام. وقام بتجفيف المستنقعات وتحويلها إلي أراضٍ زراعية، حتي إن أكثر من 506000 فدان من الأراضي المصرية تم استصلاحها، وتم إنشاء وإصلاح كورنيش النيل وأنشأ مجري السيل حتي لا تتعرض القاهرة للفيضان سنوياً. وقام بتشييد العديد من القصور والحدائق والنافورات والمراكز الثقافية، وأهمها المتحف المصري ودار الأوبرا، ولا يزال المتحف المصري يشكل مصدراً كبيراً للدخل السياحي، الذي يضم نحو 16 ألف قطعة أثرية. لقد ازدهرت الحدائق والنافورات في مناطق عديدة، كعماد الدين والأزبكية وحدائق القناطر الخيرية "التي لايزال مفتوحاً منها 150 فداناً للجمهور حتي اليوم". وأنشأ أيضاً حديقة الحيوان "التي تعرف الآن بحديقة حيوان بالجيزة"، كما شيد الثكنات العسكرية في قصر النيل، التي أصبحت حاليا المباني الرئيسية للجامعة الأمريكية بالقاهرة.
التطور السياسي
لقد كان الخديو إسماعيل باشا، رجلا مثقفاً يستهوي الموسيقي العالمية، وكان ذا رؤية عصرية متقدمة في شئون حقوق الإنسان قبيل تكوين الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ففي نفس الوقت الذي حرر فيه إبراهام لينكولن العبيد في أمريكا حظر إسماعيل باشا العبودية وتجارة الرقيق في مصر، حتي إنه عندما فتح أماكن كثيرة في أفريقيا منع تجارة الرقيق بها.
ولقد آمن إسماعيل باشا بممارسة الحريات الدينية، وحث أصدقاءه الأغنياء علي التبرع لكل المؤسسات الخيرية لجميع الأديان والمنظمات الدينية، وعين القساوسة الأقباط في عمليات تعليم وتثقيف أفراد الجيش. ولقد وضع أولوية عالية لحالة ومعنويات مواطنيه، حتي إنه أجري صفقته، التي لا أعتبرها صفقة سيئة، حيث قام بدفع ما يساوي نصف رأس المال الأصلي للشركة مقابل إنهاء الشركة لأسلوب الاستعباد للشعب المصري، خاصة لمنع جمع الشباب المصري من القري وإرغامهم علي العمل في حفر القناة بالقوة وبدون أجر (سُخرة).
ولقد قام إسماعيل باشا بإدخال مشروع الديمقراطية إلي مصر في 26 نوفمبر 1866، ولأول مرة تم تكوين مجالس القري المحلية، حتي وصل بها الأمر إلي أن يكون لهذه المجالس تأثير مهم علي الشئون الحكومية، لاسيما في مجالات ملكية الأراضي والامتيازات الضريبية والإصلاح القضائي. ولقد قام بتحسينات كبيرة في القوات المسلحة المصرية، كما عين خبراء أجانب لتدريب وتثقيف ضباطه علي فنون الحرب الحديثة في ذلك الوقت، وأسس جيشاً قوياً، لدرجة أنه نجح في ضم دارفور عام 1874 إلي امبراطورية مصر والسودان، وحاول ضم جنوب أفريقيا. ولقد فتح الباب أمام المبعوثين للتعلم في أوروبا، وعندما عادوا إلي بلادهم، ازداد الوعي المصري السياسي والوطني.. بحيث يمكن اعتبار ثورة 1919 واحدة من ثمار سياساته المصرية.
النهاية المريرة
إنني لا أعتقد أن الإفلاس المصري كان سببا في احتلال البريطانيين لمصر، ذلك أن الامبراطوريات البريطانية والفرنسية كان هدفها السيطرة علي كل الشرق الأوسط، فبريطانيا كانت ستحتل مصر سواء كانت عليها ديون أم لا، ولم تكن الديون إلا مبرراً شكلياً للاحتلال. لقد كانت إنجازات إسماعيل باشا رائعة واستراتيجية لمصر التي أحبها حباً عظيما سواء أيام حكمه أو علي أيام نفيه في روما أو أسطنبول حتي رحيله في 2 مارس 1895.
مصر للمصريين!!
يستطرد هيكل في تاريخه الذي يكتبه مشوهاً ليقول مدخلاً الأشياء ببعضها البعض الآخر، فهو ناجح جداً في خلط الأوراق والمعلومات بشكل لا يمكن أن يسبقه أحد أبداً ومن دون أن يسمّي الأشياء باسمائها. يقول: "بأرجع تاني الأحزاب المصرية علي سبيل المثال لما بدأت حركة الاستقلال بننسي مرات إنه عرابي لو قلنا عرابي هو كان أول حركة استقلال بالمعني الوطني الواضح اللي مصر للمصريين، مصر للمصريين انعزال بمصر، مصر للمصريين كانت أظن والشواهد تؤكد أنها كانت راغبة في أن الهجوم هذا الهجوم الأجنبي علي مصر واللي بيمتص بالديون ثرواتها واللي بيمتص بالاستغلال مواردها إن هو ده يقف وإنه مصر ما ينتج فيها يروح لأصحابها ولكن مصر للمصريين لم تكن في اعتقادي أو في ظني.." (انتهي نص هيكل).
رجعت يا هيكل تاني.. ماذا تريد أن تقول عن الأحزاب المصرية؟ ولماذا ننسي إنه عرابي؟ كمّل جملتك رجاء.. ماذا تريد قوله؟ بعد ذلك أعطيت شرطا لما بدأت حركة الاستقلال من ينسي أنه عرابي؟ عرابي ماذا فعل؟ أكمل الجملة الثانية رجاءً.. بعد ذلك لو قلنا عرابي هو كان أول حركة استقلال بالمعني الوطني الواضح اللي مصر للمصريين.. ماذا تريد أن تقول؟ هل تريد القول إن عرابي لم يقل بمصر للمصريين؟ هل تريد أن تقول إن عرابي أراد الاستقلال الوطني من دون أن يعزل مصر؟ طيب قلها فهي بسيطة جداً ولا تحتاج إلي كل هذا اللف والدوران.. إن أي كاتب أو مثقف قضي عمره في أي مكان يستطيع أن يركب جملة مفيدة، فكيف بعميد للصحافة العربية كما يسمونه؟ إذا لماذا مصر للمصريين حسب اعتقادك؟.. فإنني أعتقد كما يعتقد كل العقلاء أن مصر حالها حال أي بلد عربي له خصوصيته، وأي مكان له خصوصيته لا يمكن أن يتعامل معه إلا أبناؤه.. فمن قالها فليس علي خطأ.. فلا يمكن لأي لبناني أن ينكر خصوصية لبنان، ولكن لا يمكن اعتبار لبنان بلداً منعزلاً أبداً.. وهكذا بالنسبة للعراق والسعودية والإمارات والكويت والمغرب واليمن وكل بلداننا العربية الأخري.
أي وثائق قرأت؟
وتبقي يا هيكل في خضم هذا التفكير وتقول: "وأنا بقرأ كل الوثائق إنها انعزالية تطلب آه تطلب الاستقلال لكن حتي عرابي كان متمسكاً بالجامع المشترك العربي المشترك، حتي الخديو توفيق قدامه كان متمسكاً بالجامع المشترك وحتي الثورة العرابية لم تفشل إلا بمرسوم السلطان العثماني في أسطنبول اللي قال إن عرابي عاصي.." (انتهي النص).
وأقول مباشرة بعد سماعنا ما تقول: أي وثائق هذه التي تقرؤها يا هيكل؟ أي وثائق تقول بانعزالية مصر؟ نوّرنا يا هيكل إذ يبدو أن مؤرخي مصر المحدثين الكبار والشباب بدءا بالمختصين الأوائل أمثال: محمد شفيق غربال ومحمد صبري الصوربوني وغيرهما لم يطّلعوا علي هذه "الوثائق" المزعومة.. إنك دوما يا هيكل توهم القارئين والسامعين بمسألة وثائقك التي لا أصل لها! أو ربما لا تدرك معني الوثائق؟ إنني اتحداك يا هيكل أن تبرز علي العالم قصاصة من وثيقة واحدة تقول بانعزالية مصر! أو ماذا؟ هل تطلب الاستقلال؟ وهل الاستقلال انعزال يا هيكل؟ ألم نتفق قبل قليل أن الاستقلال شيء والانعزال شيء آخر؟
أي جامع مشترك هذا الذي تمسّك به أحمد عرابي؟ لماذا جعلته عربيا الآن؟ وهل الفكرة العربية كانت قد بدأت حتي يكون لها جامع مشترك؟ ولماذا قفزت الآن من جامع مشترك عثماني إلي جامع مشترك عربي؟ ثم تتذكر الخديو توفيق لتلصق به صفة تمسكه بالجامع المشترك.. فما الجامع المشترك عندك يا هيكل؟ هل هو عثماني أم عربي؟ واذا كان عربياً، فما علاقة الخديو توفيق به؟ وإذا كان عثمانيا، فما علاقة أحمد عرابي به وأنت تقول إن الثورة العرابية لم تفشل إلا بمرسوم السلطان العثماني في أسطنبول اللي قال إن عرابي عاص؟؟
أقول والعذر فيما أقول إن هذا كله خبط وخلط وخبص.. وهذا تشويه متعمد أو يأتي عن جهل.. وهذا ما يسمونه في النقد الأدبي العربي القديم بالمسخ والسلخ والنسخ الذي أود أن يراجع أسسه النقدية في كتاب "المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر" لابن الأثير.. ويبدو أن هيكل لا يريد أن يستعيد الحياة ويجلس رفقة الآخرين في درس التاريخ ليعلمه الاساتذة كيف يكتب التاريخ وعلي درجة بارعة من الأمانة والدقة والوضوح.
الصراع والتبعية: تصنيف ذات العلاقة
نبقي نفحص نصوص هيكل التي لا أدري كيف تحمل الناس سماعها علي شاشة قناة الجزيرة الفضائية، ومن دون أن يثير أي اعتراضات جدية من قبل العارفين أو حتي المثقفين. يبدو أن الناس مثلي لا تضيع وقتها الثمين في سماع مثل هذا الهذيان.. يقول: "لما نيجي في الأحزاب المصرية نبص نلاقي إنه الحزب الوطني وهو أول الأحزاب اللي نشأت بعد الثورة العرابية كان بيتكلم علي الجامع العثماني، أنا هاسيب هوية إنه عثماني لكن أيضا الحزب الوطني يدرك أنه هو موجود في إطار كومنولث، في إطار مجتمع من الدول في إطار مجتمع جغرافي سياسي لا يستطيع أن يخرج عنه لا أمنا ولا.. مش حكاية التبعية للسلطان العثماني بيتكلم علي حاجة ثانية، الحزب الوطني بيتكلم علي حاجة بالإحساس حتي موجودة مصر موجودة لكن مصر موجودة داخل إطار معين.." (انتهي النص).
هذا أمر عادي يا هيكل ليس خاصاً بمصر وحدها.. المشاعر السياسية في ذلك الوقت بدأت تحس بمعني الوطن.. الوعي لم يكن مؤهلا في نهايات القرن التاسع عشر حتي يكون قادرا علي استيعاب أفكار القرن العشرين.. إن شباب مصر كان قد ترّبي علي قيم قديمة لم يجدوا البديل بعد.. ولكن إذا كان مصطفي كامل يدعو إلي الرابطة العثمانية.. ألم يكن هناك في مصر من كان يدعو إلي غيرها؟ وهل هذا منحصر كما تعتقد في مصر وحدها.. اقرأ تاريخ سوريا والعراق ستجد الأمر نفسه.. واقرأ تاريخ تونس وطرابلس الغرب ستجده نفسه.
أتمني عليك أن تقرأ تاريخ العرب الحديث قراءة متمعنة لتكسب معرفة جديدة في تصنيف علاقة العرب بالعثمانيين علي امتداد أربعة قرون، وستجد أن هناك ثلاثة أنواع من طبيعة تلك العلاقة: علاقة صراع ونزاع كما هو الحال في اليمن ولبنان.. وعلاقة حياد واتصال كما هو الحال في بيئات الخليج والمغرب.. وعلاقة وئام ورضوخ كما في مصر وسوريا والعراق وطرابلس الغرب.
ولا أعتقد يا هيكل أن الجميع كانوا يفكرون بمسألة كومنولث كما تدّعي، فهناك جيوش عثمانية وولايات عثمانية وقوانين إدارية عثمانية حتي انتهاء الحرب العالمية الأولي.. كما في ولايات العراق وسوريا وطرابلس الغرب والحجاز، وهناك جاليات عثمانية ومثقفون من أصول عثمانية، وهناك ثقافة عثمانية طاغية.. كما في مصر وتونس (حتي في الجزائر بعد مرور عقود طوال من السيطرة الفرنسية). بمعني أن من ساهم ليس في تشكيل الحزب الوطني بمصر، بل حتي اولئك الذين ساهموا في تشكيل الحركة القومية العربية، كانوا يحملون فكرا عثمانيا أخذ يزول شيئا فشيئاً.. فلا تستغرب يا هيكل ولا تقول إن هناك جامعاً أو رابطاً أو سمّه ما شئت! وكل هذا الغثاء لا نحتاجه أبداً، إذا ما تمعّنا جيداً في قراءة التاريخ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.