اليوم فقدت مصر واحدا من أنبل عشاقها، خطيب الثورة العرابية عبدالله النديم، الذي عشق أن يعيش في حضن الشعب الدافئ، وأن يصعد إلي النضج والوعي مسلحا بالانتماء الأصيل الذي لا يخطئ، فارتقي من مقام الأدباتي الذي يحترف تسلية الأعيان والترفيه عن الأثرياء بالتهريج الرخيص، إلي مرتبة القادة والزعماء المناضلين دفاعا عن حقوق الوطن الحر، الذي يستحق نظاما دستوريا عادلا وحكما عصريا متحضرا يليق بتاريخه وأصالته. كان عبدالله النديم رائدا في مجالات شتي، فلا يملك دارسو الصحافة والمسرح والتربية والكتابة الساخرة والعمل الأهلي إلا أن يتوقفوا عن دوره غير المنكور في هذه المجالات جميعا. في كل ساحة وطنية يظهر اسم النديم، والجديد الذي ينفرد به هو اكتشافه للمعني العميق الواسع الذي تعنيه كلمة الوطنية، فهي لا تقتصر عنده علي العمل السياسي المباشر وحده، بل تمتد أيضا إلي كل ما من شأنه أن يرتقي بالناس وينهض بعقولهم وأرواحهم. لعب النديم دورا بالغ الأهمية في أحداث الثورة العرابية، ولا شك أنه يتحمل جانبا من مسئولية المبالغة في الكشف عن امكاناتها وطموحاتها، لكنه من القلة النادرة التي لم تنكسر بانكسارها، فقط احتفظ بتوهجه الذي لا ينطفئ، واحتمي بأحضان الناس هاربا من مطاردة الاحتلال ومن تعاونوا معه، وعندما ألقي القبض عليه بدأت رحلته الطويلة من منفي إلي منفي. انتقل النديم من المنفي غير المباشر داخل الوطن، إلي المنفي الصريح خارجه، وتشبث المناضل العظيم بثوابته التي لم يتنكر لها يوما. وإذا كانت دراسات المؤرخين والباحثين قد أعطت للنديم بعض حقه، فإن الأديب المصري الكبير أبوالمعاطي أبوالنجا، في روايته الفذة العودة إلي المنفي، هو من حول سيرة حياته إلي ملحمة وطنية إنسانية. في ذكري رحيل النديم، تبدو التحية واجبة لذكراه العطرة، وتحية مماثلة واجبة للروائي الذي قدم عنه عملا لا ينسي لو اعتدلت الموازين لكانت الرواية مما يدرسه الطلاب في بعض المراحل التعليمية، لكن المقاييس لم تعتدل بعد!.