ولد المسرح شعرا، لذلك سنري أن الكاتب المسرحي في المسرح اليوناني القديم كان يشار إليه بكلمة ( الشاعر) وإذا كان المسرح فيما عدا القليل النادر قد تخلي عن الشعر، غير أنه احتفظ وسيظل محتفظا إلي الأبد بشاعريته التي تتجلي في إيقاعات المشاهد وموسيقي الحوار الداخلية، الحوار ليس مجرد كلمات تنطقها الشخصيات بل هو معزوفة تستخدم حروف الكلام، وإذا طلبت مني أن أعلمك موسيقي الحوار فسأطلب منك علي الفور الابتعاد عن مهنة الدراما، لا أحد يستطيع أن يدلك علي كيفية كتابة الحوار تماما كما أنه لا أحد قادرا علي تعليمك الحب والكراهية، فكلاهما يولد معك، موسيقي الحوار هي امتداد للموسيقي المعزوفة بداخلك، هناك فريق سيمفوني كامل يعمل بداخلك مع الاعتراف بالطبع بأن هناك كاتب دراما بداخله فرقة حسب الله وهناك كاتب آخر بداخله دَرَبُكّة فقط وهي تلك الحالة التي تنتج كلاما فقط وليس الحوار بموسيقاه الجميلة، أنت في النهاية كأي آدمي إناء ينضح بما فيه. وبالرغم من أن كلمة دراما كما تعرف بالتأكيد تعني التراجيديا والكوميديا بأنواعها المختلفة غير أننا في العصر الحديث لم نعد نستخدم كلمة تراجيديا بمعناها الإبداعي المسرحي القديم، مفضلين أن نطلق عليها الاسم الكلي وهو الدراما، تماما كما نطلق اسم مصر علي مدينة القاهرة. والدراما تتطلب أول ما تتطلب أن تكون إنسانا جادا أما إذا أردت أن تكتب الكوميديا فلابد أن تكون جادا إلي أقصي حد. نعم الكوميديا هي الجد في حده الأقصي, لأن وظيفتها أساسا تنبيه الناس إلي عيوبهم الخفية الراقدة في أعماقهم والتي تمنعهم من تحقيق إنسانيتهم علي نحو أمثل، تصارحهم بذلك في إطار من البهجة ولعل أول من فعل ذلك في مصر هو ذلك المصري المجهول الذي كتب "شكاوي المصري الفصيح" وهي أقدم كوميديا علي وجه الأرض تناولت موضوعا يبدو أنه أبدي علي أرض وادي النيل وهو اللصوص واللصوصية ومحاولة الاحتماء منهم باللجوء إلي السلطة. لقد قدمت تحليلا لها في مجلة روزا اليوسف منذ أعوام قليلة أثبت فيه أن المترجمين الأوروبيين عجزوا عن اكتشاف جوانب الفكاهة في هذا النص الجميل وتعاملوا معه بوصفه نصا لحكم قديمة سياسية واجتماعية لو أن العالم المترجم مارس المسرح أو عاش بين المصريين لعرف علي الفور أن البردية التي بين يديه ليست إلا نصا مسرحيا يقدم الكوميديا في أفضل حالاتها. وهذا ينقلني لموضوع آخر وهو القدرة علي الحكم علي نص كوميدي. أرجو ألا تدهش عندما أقول لك إن التعرف علي نص كوميدي أمر شديد الصعوبة حتي علي المحترفين إذ إن هناك معادلات في الفرجة لا تكتمل إلا بوجود الضلع الثالث وهو المتفرج. ولقد سئل عبد المنعم مدبولي -رحمه الله- عن هذه المسألة فقال: الحكم علي نص كوميدي أمر صعب للغاية.. حتي أنا خدعت في نصوص كثيرة. في عروض كثيرة لي، كان الممثل يغادر خشبة المسرح إلي الكواليس بعد نهاية مشهده ويقول هامسا لمن حوله: فيه كلام كتير في الحوار طلع إنه إفيهات.. شفتم الضحك قد إيه؟ المشكلة تكمن في أن بعض الناس يخلطون بين الكوميديا كما تعرفها المدينة والملهاة كما تعرفها القرية، ستظل هناك إلي الأبد فكاهة عبيط القرية وهي تلك الفكاهة التي تولد الضحك من العبط والبلاهة. الكوميديا مدنية ومدينية، هي تتعامل مباشرة مع مجتمع مدني في مدينة، مجتمع طامح لإصلاح نفسه لذلك هي تلقي بالضوء علي عيوبه، وهو ما يفجر الضحك الصحي ويجعل المشاهدين أفضل حالا مما كانوا عليه قبل مشاهدة العمل الفني، أما فكاهة عبيط القرية وهي بالمناسبة النوع السائد في مصر الآن فهي وثيقة الصلة بالتنفيس عن العدوان، المتفرج هنا لا يضحك بدافع من فضح عيوبه، بل هو يضحك بدافع من العدوان علي شخص عبيط يقدم فعلا يتسم بالبلاهة. وإذا كان عبيط القرية ينطق بكلمات ويقوم بأفعال بلهاء لكي ينتزع الضحك ممن حوله إلا أنه شخص حاد الذكاء علي وعي بأن مكانه في القرية مرهون بلعب هذا الدور، دور الأهبل لأن جمهوره لا يريد منه ولن يقبل منه شيئا آخر وهو بالطبع يستثمر ذلك إلي أقصي حد. عليك أن تكتشف ما هو مضحك في كل شيء يبدو جادا، لنفرض أنك تكتب دراما موضوعها انفلونزا الخنازير تكشف من خلالها حقيقة سلوك كل العاملين في حقل مقاومتها، اترك العنان لخيالك، اسمح للوعي بمساعدتك، بالتأكيد بطلك سيكون وزير الصحة الذي انتقلت إليه العدوي أثناء زيارته لأحد المستشفيات، كل مساعديه حتي بعد أن يشفي منها سيحرصون علي الهروب منه وعدم مصافحته، وكيل الوزارة لن يضع علي وجهه كمامة فقط بل ملاءة فرش ثم أعمدة الصحافة ورسامو الكاريكاتير.. ويتضح أن الأدوية الموجودة في الوزارة غير فعالة كما يعترف هو ثم رجل الأعمال الذي يرسل طائرته الخاصة لتحضر الدواء من أوروبا، ما رأيك أن يصاب الطيار أيضا ويعود بالطائرة إلي المطار فيرفض كل الطيارين قيادتها والرجل المسكين يتألم في انتظار العلاج.. فكر علي مهل.. ستكتب كوميديا جميلة.. فقط كن جادا إلي أقصي حد.