طالما ضايقتني مقولة (اللي بني مصر كان حلواني).. لأنني مع احترامي الشديد لكل (الحلوانية)، ولصنائعهم العظيمة من كل أنواع الحلوي، كنت أفضل أن يكون باني مصر مهندسا معماريا.. وبالرغم من إعجابي بأغنية تتر المسلسل القديم (بوابة الحلواني) والتي كانت كلماتها هي كلمات هذا المأثور الشعبي: اللي بني مصر كان في الأصل حلواني.. وعشان كده مصر حلوة الحلوات.. إلا أن هذا أيضا لم يشفع في قبولي للمأثور الشعبي ولا لأن بلدي كلها قد بناها حلواني! ورحت أبحث عن أصل الموضوع وعن الحلواني الكبير اللي بني مصر ويا لعجب ما وجدت.. فقد علمت أن الحلواني هو (جوهر الصقلي) باني القاهرة الفاطمية والتي مر علي بنائها 1040 سنة بالتمام والكمال.. حيث تعود أصول الصقلي إلي طائفة الأرمن في كرواتيا التي ولد وعاش بها قبل انتقاله إلي صقلية التي عرف بها، وكان يجيد صناعة الكنافة والحلوي قبل بيعه كمملوك للخليفة (المنصور بالله) الفاطمي الذي ألحقه بالجيش فأثبت كفاءة كبيرة وترقي فيه حتي صار أشهر قواده. وكلنا نعلم تاريخ بناء القاهرة الفاطمية الرائعة الجمال والجامع الأزهر والذي قام ببنائهما جوهر الصقلي أو الحلواني.. وقد جاء الصقلي علي رأس جيش الفاطميين وأخذ مصر من الإخشيديين وبني القاهرة قبل مجيء الخليفة المعز.. وقد قام بتسميتها ب (القاهرة) لا لأنها تقهر أعداءها كما كانوا يقولون لنا، ولكن لأن (النجم القاهر) ظهر في سمائها وقت وضع حجر الأساس لها.. وهكذا اختار جوهر الصقلي اسم القاهرة للمدينة الوليدة تيمنا بالنجم.. وقد بدأ البناء بالسور والبوابات، وكان يقع في مركزها القصران الخاصان بالخليفة، وما بينهما حي (بين القصرين). ثم بدأ البناء بالداخل وبناء الجامع الأزهر لتصير القاهرة عاصمة الفاطميين ومنبر المذهب الإسماعيلي.. ويقولون إن المؤرخين يعتقدون أن القاهرة الفاطمية تعتبر نموذجا رائعا بهيا متكاملا أحسن جوهر الصقلي في تصميمها، وأبدع في بنائها.. وقد منع السكان من دخولها طوال فترة البناء التي امتدت لحوالي أربعة أعوام.. ولما جاء الخليفة المعز بهره جمال القاهرة وجعلها عاصمته وأحضر رفات جدوده ليستقروا معه فيها.. إذاً باني مصر الحلواني لم يكن مجرد حلواني.. بل كان قائدا عسكريا عبقريا ورجلا شديد الذكاء.. ومن الواضح أنه كان علي مستوي عال من العلم، فكان يفهم في الفلك، وفي العمارة، وفي صنع الحلوي.. وكان يقدّر العلم فبني جامعة عظيمة لاتزال من معالم مصر هي الجامع الأزهر.. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أنه لم يكن باني مصر، ولا حتي باني القاهرة، بل بني القاهرة الفاطمية فقط، فيكون المأثور الشعبي قليل الدقة فالرجل لم يكن مجرد حلواني ولم يبن مصر كلها.. عموما تبقي مأثوراتنا جميلة ما نقبله منها وما لا نستسيغه، لأنها تبعث فينا التفكير، وتدفعنا للبحث والتنقيب، وتربطنا بهويتنا وتاريخنا، وتشغلني من الجمعة إلي الجمعة لأضع كل جمعة واحدا منها في هذا العمود..