تناولنا في المقال السابق "سنة الصيام عند المصريين 467 يوماً" كيف ان المصريين يقدسون الاصوام سواء كانت فريضة ام نوافل ام تطوعًا اختياريا، حيث يصل عدد ايام الصيام عند المسلمين إلي (201) يوم وعند المسيحيين إلي (266) يوماً، والعمق الحضاري لروحانية الانقطاع عن الطعام عند المصريين يقترن دائماً بمناسبات تحمل بين طياتها تحديات مصيرية جسورة ففي رمضان انتصر المصريون علي التتار ودحروهم في عين جالوت 656 ه ، وفي العاشر من رمضان 1393 ه انتصر المصريون ودحروا الصهاينة، وفي الحالتين شعر المقاتلون ان عوناً من السماء قد تدخل لنصرتهم. وعلي الجانب القبطي نجد نفس التكوين الانساني الروحي فالمصريون الاقباط يعتقدون في ان صيامهم قد نقل جبل المقطم وجعل المسيحية تنتصر علي الطاغية دقلديانوس ، بل وفرض انتصار المسيحية علي الامبراطورية الرومانية جمعاء حيث اعتنق الامبراطور قسطنطين المسيحية. إننا امام اساطير واقعية مزج فيها المصريون بين الصيام والصلاة والمقاومة السلمية السلبية، لقد امتزج كل ذلك بالطبيعة المصرية الروحية الانسانية فصارت جزءًا من مكونات الشخصية المصرية والجماعة المصرية ككل، فنحن حين نتعرض لمظالم وتحديات نحتاج الي ضرب من الاعجاز ، نصوم ونصلي ونعتكف ونبتهل الي الله ونعتبر ان هذا هو التمهيد الحقيقي للانتصار، فالنصرة علي الذات تسبق مواجهة الظالم، أغلب معارك المصريين دارت مقترنة بتلك المكونات ، ولذلك فمفهوم الشفاعة لدي المصريين مسلمين واقباطًا ويهودًا يختلف كثيراً عن اصحاب الديانات الثلاث في العالم فهم لا يعبدون الولي او القديس أو اصحاب المقامات الرفيعة بل يتقربون منهم طريقاً ووصولاً للمولي عز وجل و يسمونهم بأسماء تحمل دلالات موضوعية حضارية ، فالسيدة زينب (الطاهرة) ، السيدة نفيسة (أم الغلابة)، والسيدة العذراء (البتول) ، فتنتشر لفظة البتول علي الكثيرات من اصحاب المقامات المقدسة. ونجد سيدنا الحسين رمزاً للمعارك غير المتكافئة وجزءاً من الحشا المصري في الدفاع عن الحق مهما كانت قوة الظالم، ويمتليء الادب المصري خاصة أدب نجيب محفوظ بالدلالات والرموز التي تحمل ارتباطاً مصيرياً عميقاً بين المصريين وآل البيت خاصة الحسين والسيدة زينب وغيرهما، رغم ان المسلمين المصريين من السنة الأقحاح. وعلي الجانب القبطي نجد مارجرجس بحربته يقتل التنين وينقذ الفتاة العذراء ، ويعتقد الكثيرون في الدفاع عن هذه الاسطورة بدلالات ورموز مختلفة فتارة ترمز هذه الفتاة العذراء للكنيسة وتارةً اخري ترمز للوطن، والتنين تارة يرمز للشيطان واخري للظالم والمحتل. ومن المفارقات ان المصريين يعتقدون ان مارجرجس بطل روماني رغم ان اغلبية الاقباط المصريين أرثوذكس، ومن هنا تبدو عبقرية هذا الشعب العظيم فهو يتعاطف مع المظلوم في مواجهة الظالم بغض النظر عن توصيف هذا الاسلوب الروحي مذهبياً، فإنهم رغم انهم من المسلمين السنة الا انهم اكثر من الشيعة حباً لآل البيت ، وهم رغم انهم من الاقباط الارثوذكس إلا انهم اكثر من الكاثوليك ارتباطاً بالشفاعة. أيضاً يحب المصريون إضفاء الطابع العائلي علي آل البيت (ابن بنت الرسول "ص") وينادونهم بذلك (يا ابن بنت النبي "ص")، وكذلك الامر علي السيدة زينب والسيدة فاطمة واخريات ، وأيضاً كلمة العائلة المقدسة منذ ان لاذت هذه العائلة بمصر وفي أغلب ايقونات العذراء القبطية لا تبدو العذراء منفردة كما في العالم الغربي ، فهي إما حاملة طفلها يسوع وإما مع باقي العائلة المقدسة. وهكذا ارتبط التدين المصري بالاصوام والشفاعة آخذاً خصائص حضارية متفردة لمواجهة الظلم قتالاً مثل مارجرجس والسيد البدوي، أو مواجهة الظلم مهما كانت المعركة غير متكافئة مثل سيدنا الحسين وسائر القديسين المصريين الذين واجهوا الرومان، او مقاومة سلبية مقترنة بالقديسات مثل العذراء، السيدة زينب وغيرهما ، وكذلك إضفاء التماسك العائلي علي آل البيت أو العائلة المقدسة ، ومن ثم لا توجد قرية مصرية ليس لها شفيع سواء كان من أولياء الله أو قديسًا، وهكذا يرتبط كل ذلك بالنذور والصدقات ونصرة المظلوم وديوان المظالم ورسائل الي هؤلاء وشموع تنير وبخور .. وللحديث بقية.