بعيدا عن الانطباع العام عن أمريكا أرض الأحلام، تظهر من آن لآخر ملامح الصورة السوداوية للجانب المظلم المتواري عن الأنظار مليئا بقصص من المعاناة الانسانية التي تعج بها بلدان العالم الثالث. هذه الصورة الأخري -ان جاز التعبير- عن أغني بلدان الأرض كشفها مايكل هارينجتون لأول مرة في كتابه أمريكا الأخري عام 1962 مما حدا بادارة الرئيس ليندون جونسون لاعلان حرب غير مشروطة علي الفقر في أمريكا، والآن وبعد ما يقرب من خمسة عقود منذ ذلك التاريخ لا يبدو أن الادارات الأمريكية المتعاقبة نجحت في مقاومة الفقر وفق تقرير لستيفن ليندمان الباحث بمركز أبحاث العولمة الكندي اليساري بل ان الفجوة بين الأغنياء والفقراء اتسعت بشكل مخيف وخاصة في ولاية نيويورك التي تعد نموذجا لعدم المساواة. التقرير رصد هذه المعاناة الإنسانية من خلال أرقام دراسات واستطلاعات ومراكز أبحاث تجسد جميعها زيادة نسب الفقر والتشرد والبطالة والمجاعة داخل الولاياتالمتحدة في ظل تنامي الأزمة المالية العالمية، فعلي سبيل المثال هناك 48 ولاية علي الأقل واجهت أو ما زالت تواجه عجزا في ميزانيتهم لعام 2010 يقدر بنحو 24٪ أي 163 مليار دولار نتيجة لأن هذه الفترة سجلت أدني مستوي من تحصيل الضرائب خلال عدة عقود، فيما تتوقع 33 ولاية أمريكية علي الأقل أن العجز في ميزانية عام 2011 سوف تكون أكبر من العجز في ميزانية 2010 تصل إلي 350 مليار دولار بينما سيشهد عام 2012 انفراجة بعض الشيء في عجز الميزانية أو سيبقي الحال علي ما هو عليه، وذلك وفق آخر تقرير لمركز أولويات الميزانية والسياسية. كما تشهد الولاياتالمتحدة انخفاضا حادا في الخدمة الاجتماعية وفي البرامج المخصصة لدعم كبار السن والمعاقين، بالاضافة إلي انخفاض الخدمات المقدمة لرعاية الأطفال واعادة التأهيل. وتشير تقديرات منظمة اطعام أمريكا أو فيدينج أمريكا لاطعام الفقراء إلي أن واحدًا من كل ثمانية أمريكيين يواجه مشاكل متزايدة في المجاعة (أي أن عدد الجياع بالملايين) دون أن يكون بالضرورة فقيرا أو عاطلا عن العمل بل انهم يكونون في أغلب الأحيان من الكبار المجدين في العمل أو من الأطفال بما يحتم عليهم الاقتصاد في وجباتهم الغذائية حتي أنهم قد يظلون بلا طعام لبضعة أيام، فلا عجب اذن في أن تصنف الولاياتالمتحدة في تقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية كأكثر دولة تعاني من نسب عدم المساواة والفقر لعام 2008 من بين الثلاثين دولة الأعضاء في المنظمة فلا تسبق سوي المكسيك وتركيا في القائمة. وتدل الاحصائيات التي تم تجميعها في عام 2007 أي قبل الأزمة المالية علي وجود 37.5 مليون فقير في أمريكا يمثلون 12.5٪ من السكان و9.8٪ من العائلات الأمريكية ويشكلون 20.3 مليون أو 10.9٪ من الأمريكيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18-64 عاما و13.3مليون أو 18٪ من الأطفال دون 18 عاما بالاضافة الي 7.3 مليون أو 9.7٪ من الكبار الذين يبلغون 65 عاما أو أكبر من المستفيدين من الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية. ويقدر عدد الأمريكيين الذين يحصلون علي طوابع غذاء بنحو 34.4 مليون أمريكي أي واحد من كل تسعة وفق تقديرات وزارة الزراعة الأمريكية، فيما يتوقع أن يزداد عدد الفقراء الأمريكيين بنحو مليون ونصف في تقرير وزارة التجارة عن عام 2008 الذي يصدر في العاشر من سبتمبر القادم، ليصل عدد الفقراء في الولاياتالمتحدة الي 39 مليونا يمثلون 12.7٪ من الأمريكيين. هذه الصورة تزداد قتامة عند معرفة أن مليونين الي ثلاثة ملايين أمريكي من بينهم 1.3 مليون طفل ينضمون الي قائمة المشردين سنويا والأكثر عرضة لذلك هم من يفقدون وظائفهم أو منازلهم وملايين الموظفين الذين يحصلون علي دخول زهيدة يدفعون أكثر من نصفها لسداد ايجار منزلهم. واستعرض التقرير أرقاما مخيفة عن ارتفاع نسبة الوظائف التي تدفع أجورا عند مستوي الفقر بحوالي 4،7 مليون وظيفة، فيما ارتفعت الوظائف التي تدفع أجورا دون مستوي الفقر بنحو 29.4 مليون وظيفة لتشكل وحدها 22٪ من الوظائف الموجودة، كما زادت العائلات ذوي الدخل الصغير بنسبة 350 ألفا ليصل عددها الي 9.6 مليون عائلة يمثلون 28٪ من السكان، مع ضرورة الأخذ في الاعتبار أن هذه الزيادات حدثت في وقت نمو اقتصادي أي قبل الأزمة المالية بما يرسم صورة متشائمة للمستقبل.