عندما قامت نبيلة عبيد باختراع فكرة الدعاية لمسلسلها لأول مرة في مصر، وعرضت له أفيشات في الشوارع، ومحطات المترو وفوق الكباري وعلي جوانب الاتوبيسات قامت الدنيا ولم تقعد وواجهت حملة من الاعتراضات من الفنانين أنفسهم الذين تهكموا عليها وسخروا من عقليتها إلا أنهم بعد ذلك قلدوها وبعد أن كانت أفيشات مسلسل نبيلة عبيد تقتصر علي الشوارع الرئيسية في العاصمة نجد الآن أفيشات البرامج والمسلسلات في كل مكان حتي وصلت إلي الأسواق والمناطق الشعبية وتحولت الدعاية إلي كابوس يقفز أمام الوجوه عبر شاشات الفضائيات وصفحات الجرائد ووصلت إلي التنويهات في الإذاعة أيضًا، فإذاعة الF.M تقطع أغانيها لتنبهك ألا تنسي مشاهدة أحد المسلسلات علي هذه القناة أو تلك، دون أن تمنحك الحل السحري لكيفية متابعة هذا الكم الهائل في فترة واحدة وأصبح المشاهد مثل التائه في الزحام. إن زخم الدعاية والإعلان لن يضيف للأعمال الدرامية شيئًا بل ربما يتسبب في العزوف عنها، مثلما حدث مع فيلم ليلة البيبي دول الذي أدت الدعاية الجبارة إلي تراجع إيراداته، كما أن مسلسلات رأفت الهجان وليالي الحلمية عاشت في وجدان الشعب العربي كله بدون أن تثار حولها كل هذه الضجة الإعلانية. استفزاز.. واهدار للمال العام وفرقعة إعلامية إلا أن وراء هذه الظاهرة الإعلانية حربًا خفية نحو الكسب وضد الخسارة فقد ألقت الأزمة الاقتصادية العالمية بظلالها علي تسويق الأعمال الدرامية هذا العام، فلم تعد هناك كلمة حصري بل إنها قد تغيرت، لنفاجأ بشيء جديد كان في الأعوام السابقة خارج التوقعات وهو مفيش حاجة حصري فكل المسلسلات أو معظمها يتم عرضها علي كل القنوات ويرجع الاتجاه إلي عدم عرض الأعمال الفنية حصريًا إلي التكلفة الضخمة التي تتم عن طريقها إنتاج المسلسلات فالعمل الفني الواحد تتراوح تكلفته الإنتاجية بين 15 و25 مليونًا وهو رقم كبير لا تغطيه مسألة العرض الحصري علي أي قناة، وعن طريق بيع المسلسل لأكثر من محطة فضائية وأرضية يتم تحقيق هامش ربح مناسب،مما أدي إلي انعاش عملية تسويق المسلسلات وفتح المجال أمامها لكي تعرض في أكثر من قناة وتصل إلي قطاع عريض من الجماهير، وهذا يصب في النهاية لصالح النجوم الذين كانوا يصابون بالغضب عند إغلاق بعض القنوات الفضائية شاشات العرض في وجوههم والاكتفاء بعدد قليل من النجوم، ولكن محاولة الحصول علي معظم الأعمال الدرامية وإن كان قد أعفي القنوات الفضائية من دفع مبالغ باهظة في عمل واحد إلا أنها دخلت في سباق من نوع آخر وهو سعيها الجاد من أجل استرداد الأموال التي دفعتها في عدد كبير من المسلسلات، ويتم ذلك من خلال حملات دعاية شرسة وتنويهات يومية وإعلانات في الشوارع تواجه الجمهور كلما استدار بوجهه في كل الاتجاهات. وفي الحقيقة أن وسائل الدعاية لخطف أكبر عدد من المشاهدين تتم أحيانًا بمنتهي السخف والمبالغة وعدم المصداقية في بعض الأحيان. إن الإجابة تتلخص في البحث عن النصيب الأكبر في كعكة الإعلانات، فبناء عليها يتم اختيار المسلسل الذي يقوم بدور البطولة فيه نجم من العيار الثقيل يجبر المشاهدين علي الاتجاه لهذه القناة دون غيرها، فالممثل الجيد يعتبر من أهم عوامل الجذب للمشاهد وللمعلن في نفس الوقت وبهذه الطريقة تسترد القناة الأموال التي دفعتها عند التعاقد علي عرض المسلسل. هوس الدعاية الإعلامية إن حمي الدعاية للمسلسلات الدرامية في رمضان لا يقف وراءها النجوم وإنما الهدف منها هو الارتفاع بأسهم القناة الفضائية وتعلية حضورها لدي المشاهدين، وهذا ما يفسر إصرار قناة دريم علي تنجيم ليلي علوي ومغازلة الجمهور ليتابع مسلسلها وعندما اشترت القناة حق عرض مسلسل ابن الأرندلي بدأت تنقل البشري لمشاهديها بأن الفخراني هو صاحب الحضور الطاغي علي شاشتها في رمضان ويتم ذلك بإلحاح غريب، حتي تستعيد القناة الفضائية المبلغ الذي دفعته لتنجز هذا التعاقد وهو 4 ملايين دولار ونصف المليون دولار ليكون ابن الأرندلي هو العرض الأول علي شاشتها ومن بعدها مليون ونصف المليون دولار ليتم عرضه علي قناة ART حكايات وهي قناة مشفرة،أما التليفزيون المصري فقد دفع مليون دولار ليضمن الفوز بعرض المسلسل علي شاشته حيث يتمتع الفخراني بجماهيرية كبيرة ويعتبر عامل جذب مهمًَا علي القنوات الأرضية، وكان للمنتج وائل عبدالله دور كبير في تسويق مسلسله بهذه الطريقة فهو منتج وموزع أيضًا ويهمه أن يعرض مسلسله علي أهم القنوات،كما أنه يريد أن يسترد الأموال التي أنفقها في حملات الدعاية والتي تقدر ب3 ملايين جنيه، وإذا كنا قد عرضنا لمسلسل يحيي الفخراني كنموذج لهوس الدعاية واشتعال المنافسة بين الفضائيات علي ترويج المسلسلات فإننا قد خرجنا بنتيجة مهمة وهي أن الزمن قد تغير فلم يعد المسلسل يتكلف ثلاثة أو أربعة ملايين بل تصل التكلفة إلي أرقام خيالية وأنها السبب الحقيقي وراء حرب الدعاية والإعلانات فلا تنزعج إذا شاهدت إعلانًا في إحدي الصحف يأخذ صفحة كاملة ويتصدره وجوه النجوم والفنانات لأن تكلفة الصفحة ما هي إلا قطرة من بحر تكلفة الإنتاج ومن خلال حسبة بسيطة، أؤكد أن البانوه الواحد في الطرق الرئيسية يتكلف من 120 ألفًا إلي 150 ألفًا والمدهش أن تمتد هذه الإعلانات من القاهرة إلي مارينا فكم تصل التكلفة الإجمالية لهذه البانوهات، وإذا كان الموسم الرمضاني يضم 60 مسلسلاً ما بين أعمال درامية ومسلسلات ست كوم استهلكت أموالاً ضخمة في الدعاية ألا يعتبر البعض أن ذلك إهدارًا للمال العام لأنه للأسف قد دخلت شركات مثل صوت القاهرة للصوتيات والمرئيات وشركة مدينة الإنتاج الإعلامي إلي حلبة الصراع علي الدعاية وواجهنا إعلانات مستفزة في الشوارع أثارت استياء الناس بدءًا من البوسترات التي ليس لها داع والتي تجمع بين تامر أمين وخيري رمضان، ألا يكفي وجودهما علي شاشة البيت بيتك لمدة 3 ساعات يوميًا في عمل دعاية لهما أم أن الأمر من باب تحصيل الحاصل، ولا أفهم أن تستخدم الطرق السخيفة في هذه الإعلانات التي تواجهنا في الشوارع مثل إعلان فوازير محمود سعد الذي يتم إعداده علي طريقة بابا شارو، أما إعلان لميس الحديدي فإنه أثار تعجبنا بتلك العبارة التي تقول مين اللي يقدر علي لاميس، وكل ذلك كنا في غني عنه لأن الإعلان يستفز المشاهد لينزل من منزله ويحضر فيلمًا سينمائيًا أو حفلاً غنائيا، أما التليفزيون فيقتحم البيت ويفرض وجوده علي الناس من خلال العمل الجيد، فلماذا نهدر المال العام في دعاية لا طائل منها. ماذا سيجني المشاهد من حرب الإعلانات التي تزداد حدتها يومًا بعد يوم كان من الأفضل بالنسبة لشركات الإنتاج والفضائيات أن تدير حملة الدعاية لها بشكل مختلف لا يستفز المواطن المصري الذي يدخل في أعباء المعيشة ويري الأموال تهدر أمامه فيما لا يفيد، كان من الأفضل أن يتم عمل شنط رمضان تحمل اسم النجم والمسلسل والقناة التي تعرضه وتوزيعها علي الفقراء، فهذا التصرف سيكون له صدي كبير لدي الجمهور،أو كان من الأولي الحد من بهرجة الدعاية في الشوارع والطرق والكباري أسوة برئيس الوزراء أحمد نظيف عندما رفض أن يقيم سرادق عزاء لزوجته يثير به مشاعر البسطاء. إن وزير الإعلام أنس الفقي يجب أن تكون له وقفة تجاه الأموال التي تهدر في الدعاية للمسلسلات التي تعرض علي التليفزيون المصري لأنها أثارت غضب المذيعين والمذيعات والموظفين الذين لم يحصلوا علي مرتباتهم، يجب علي الوزير أن يتدخل ليعيد سلم الأولويات، صحيح أنه نجح في أن يعيد للقنوات الأرضية حضورها أمام الفضائيات التي كانت تتسلل لسحب البساط من تحت أقدام الإعلام المصري إلا أن الدخول في مهاترات حرب الإعلانات غير المنطقية لا يليق بمؤسسة إعلامية لها جمهور عريض يمنحها الثقة ولا يفضل علي التليفزيون الأرضي أي قناة فضائية مهما كانت في شهر رمضان، فلابد من وقف الاستفزاز الذي يلاحق المواطن في الشارع وألا يسير التليفزيون المصري وراء الفضائيات لأن نسبة المشاهدة مضمونة له ولا يحتاج من أجلها لإعلان. وكان من المفروض علي الإعلاميين الذين هم في الحقيقة كتاب وصحفيون ألا ينزلقوا وراء الدعاية السمجة التي تعتبر أقل من قدراتهم، وكان يجب أن يتأملوا قليلاً في موقف عمرو أديب الذي يثق في نفسه لدرجة أنه لم يلجأ لهذه الوسيلة السطحية في الدعاية لبرنامجه بل وصل إلي حقيقة مؤكدة وهي أن جمهوره الذي يفضله لن يتركه لغيره من الإعلاميين أو البرامج. بعد الأسبوع الأول.. الجمهور المصري يقرر أي مسلسل يتابع شركات الإنتاج وأصحاب الفضائيات يتحملون جزءًا من المسئولية في اللعب بعقول المشاهدين والزج بهم في ضجيج الدعاية وسباق التسويق وسخافة الإعلانات المروجة للأعمال الفنية، ولابد من إعادة توجيه الدفة مرة أخري لخدمة المشاهد لا المضي في لف حبال الخديعة حول عنقه، لأن الجمهور المصري هو الوحيد في العالم العربي الذي يقضي اليوم الأول والثاني من رمضان في حالة اختبار للبرامج والمسلسلات، وبعد الأسبوع الأول يفرض اختياراته مهما كانت الدعاية أو حجم البانوهات والتنويهات، فليت هذه الأموال تنفق علي جودة الأعمال الفنية بدلاً من فرقعتها كالألعاب النارية في الهواء. تسببت بانوهات المسلسلات في الشوارع في تشويه الوجه الحضاري للقاهرة... لأنها وضعت بعشوائية وبدون تنسيق وباستفزاز.. وتزاحمت مع الإعلانات الأخري بلا نظام مما يتطلب من التنسيق الحضاري وضع حد لهذه العشوائية لأنها وسيلة ضد الجمال والرقي. لقد تضخمت شركات الإعلانات ولم يعد لها نظام يتحكم في توجهاتها وأصبحوا قوة ضاربة في السوق بغض النظر إذا كانت تتوافق مع الصالح العام أم لا ومن هنا يجب أن تتم إعادة النظر في الإطار العام لهذه الشركات.