أعرفُ..كم هو جائر يا رفيقي.. أن تتساقط أسنانك على عتبة المشفى..فتقذفها بيديك فى وجه غيوم لندن..لا بأس..فلم يعد لديك أعداء تحتاج إلى قضمهم… لم يبالغ فى سرد آلامه بالكلمات وإنما مر عليها ساخراً بشموخ مصارع قديم فقال «قدماى تتورمان بفعل فساد فى كبدي.. وبفعل الدماء التى تتسرب من مخارجي.. ومع ذلك أدخل المستشفى..بشموخ مصارع قديم»... وبأنين صامت قال «أنا معتل يا أمى».. مسيرة شعرية طويلة اجتازها الشاعر محمود قرنى اختتمها بعد صراع مع المرض أمس الأول الأحد عن عمر يناهز 62 عاماً ولد محمود قرنى عام 1961 فى مدينة الفيوم وأقام فى القاهرة بعدما حصل على درجة الليسانس فى القانون من جامعة القاهرة 1985، وأسس مع آخرين ملتقى قصيدة النثر بالقاهرة لدورتين متصلتين فى 2009 و2010 بمشاركة أكثر من أربعين شاعرا عربيا. بعد حصوله على ليسانس الحقوق من جامعة القاهرة عمل محمود قرنى بالمحاماة لفترة وجيزة وشارك فى العديد من مهرجانات الشعر العربية والدولية، مثل: مهرجان الشعر العربى الثالث بالمغرب، ومهرجان جرش، وأسبوع الثقافة المصرية بالكويت. وحصل قرنى على عضوية عدد من المؤسسات، منها: عضوية اتحاد الكتاب، عضوية أتيليه القاهرة للكتاب والفنانين، عضوية مجلس أمناء كرمة بن هانئ- إلا أنه استقال منه، كما حصل أيضًا على عضوية بيت الشعر التابع لوزارة الثقافة. بدأ مسيرته الشعرية كباقى أبناء جيله بالقصيدة التفعيلية ثم تحول إلى كتابة القصيدة النثرية التى أصبح أحد أصواتها البارزة فى الخريطة الشعرية العربية فكانت له عدة دواوين منها. «الشيطان فى حقل التوت» والذى نشر فى سلسلة الأدب ضمن مشروع مكتبة العائلة و يحتوى على عشر قصائد يرصد فيها ما يجرى فى عالمنا المعاصر،حملت القصائد ألقاب «كلاب»، «واحد وعشرون طلقة لروحه»، «نخلة»، «إبليس فى حقل التوت»، «مخلوقات صغيرة»، «لحذائه»، «نسيان»، و«ابراهيم الاهاري» ميدوسا وبوابة الأكاذيب. وديوان «اللعنات الشرقية» وفيه، يرسم قرنى «لعنات شرقية» برسومات درامية، متتبعًا تاريخًا متخيلًا للورود فى الأكمام التى هربت من القصر عبر حبل من الجلباب البعلبكى الممتد من السطح إلى الأرض، كما هو مسجل فى كتاب واحد «ألف ليلة وليلة». لكن فى المحكمة، يلاحقها حكيم عجوز قائلاً:»جسدك كنز دفين من اللذة وملاذ الصالحين – لذا اجعله وجهتي.» ثم قال الملاك: "آه، يا جدى، فمك عميق، وبالكاد أستطيع أن أفعل ما تقوله» اقترب وقل لي: من خلع كل هذه الأسنان فيك؟!» الديوان يستعير أصوات الشعراء بما فى ذلك طاغور الهندى والألمانى جوته والأرجنتينى خورخى لويس بورخيس، هو قصيدة طويلة من 43 مقطعًا. أما كتابه «أبطال الروايات المنقوصة» فهو مجموعة مختارات شعرية نشرتها دار الأدهم فى 314 صفحة من القطع الوسيطة، وتضمنت مقدمة كتبها القرنى بعنوان «كلمة ليست ضرورية». كذلك كتاب «خاتم فيروزى للرجل الحكيم للعائلة» الصادر ضمن سلسلة روائع الأدب العربى الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، قدمها الكاتب والباحث نبيل عبد الفتاح، وتقع فى 264 صفحة من القطع المتوسطة، بعض القصائد التى لم تنشر فى مجموعات سابقة. وبالرغم من مرضه الذى لازمه لفترة طويلة لم يتوقف عن الكتابة ولا عن المشاكسة ولا عن إصدار الكتب، ففى عام 2022 وحده أصدر ثلاثة كتب: منهم «خاتم فيروزى لحكيم العائلة» وكتابا يضم دوادوين من شعره بعنوان «خارطة مضللة لمساكن الأفلاك» صدر عن "الهيئة المصرية العامة للكتاب" وديوانه الشعرى «مسامرات فى الحياة الثانية». وأصدر محمود قرنى عددا من الدواوين الشعرية الهامة، وهي: «حمامات الإنشاد» وهو أول دوواينه عام 1996 تلاه بديوان «خيول على قطيفة البيت»، و»هواء لشجرات العام»، و»طرق طيبة للحفاة»، و«الشيطان فى حقل التوت»، و«أوقات مثالية لمحبة الأعداء»، و«قصائد الغرقى»، و»لعنات مشرقية»، و"تفضل.. هنا مبغى الشعراء"، و»ترنيمة إلى أسماء بنت عيسى الدمشقي»، ومختاراته الشعرية «خاتم فيروزى لحكيم العائلة" عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، و»خارطة مضللة لمساكن الأفلاك» عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، فضلا عن عدد من الدراسات النقدية المهمة عن الشعر، من أبرزها كتابه "لماذا يخذل الشعر محبيه». تنوعت ابداعات محمود قرنى بين التفعيلة والنثر وعن تجربته تلك قال فى حوار سابق له «إن كل نص يفرض شروطه على كاتبه، ولا يمكن لشاعر «العمودي» أن يكتب نصا خارج الأغراض الشعرية التقليدية، ولا يمكن لشاعر التفعيلة أن يكتب نصا خارج شعارات الوعى القوموي، الذى عظم من قيمة الخطاب الجماعى أو المنبري، «قصيدة النثر باعتقادى تمثل المستقبل وهى الآن تصنع المستقبل، والشعراء بيتعلموا من تجارب سابقيهم». وأضاف «قرني» أن الشاعر أصبح مطالبا بأن يختصر الذاتيات الجماعية والكثيرة فى ذات واحدة، وليس كنوع من الأنانية، لافتا إلى أن القصيدة خطاب الماضى السحيق للمستقبل البعيد، حيث إن الشاعر رعوى بطبيعته، ويميل للتاريخ القديم والسرديات الكبرى بوعيه، ووعيه ليس بالأكاديمى أو المنهجي، وله انطباعات خاصة عن العالم والواقع المتغير، والمعنى الشعرى متغير أيضا، وارتباط قصيدة النثر بالسياسة لم يكن أبدا ارتباطا مباشرا، ولكنه ارتبط بتحولات كبرى فى الفكر الإنساني». وأشار قرنى إلى أن «مشكلتنا فى العالم العربى أن الشعوب بعد الحداثة مرتبطة بالفنون أكتر من ارتباطها بالسياسة، وتم سحبها على السياسة لاستخدامها بشكل مغرض، واستجابة قصيدة النثر للخطاب السياسى كانت محدودة وكان فيه جوة ده سخط عام لم يكن موجه لنظام سياسى ولكنه كان موجها للعالم، ومشكلة قصيدة النثر أنها أعلت من شأن الحقيقية وهى صعبة ومريرة على قيمة الجمال». ويرى «قرني» أن الأسباب التى دفعت جيله للالتفاف حول ملتقى قصيدة النثر، الذى ساهم فى تأسيسه عام 2009، هى نفسها الأسباب التى جددت الحاجة لوجود فعالية تملك صفة الاستقلال والجدية، فالحياة الثقافية فى مصر -فى نظره- فقيرة بشكل مثير للأسى، وفاسدة بشكل لا يمكن فهمه، وبالرغم من ذلك يملك جرأة الاعتراف بأنه لم يتغير شيء بين الأمس واليوم، يقول: «لقد كانت صرختنا فى وجه المحافظين عالية وغائرة، لكن شيئا لم يتغير». فتاريخ الشعر كما يراه صاحب «طرق طيبة للحفاة» هو تاريخ الألم، وانحياز الشاعر فى جوهره انحياز لما هو نبيل فى التاريخ الإنساني، فعندما فاز سان جون بيرس بجائزة نوبل قال فى كلمته الافتتاحية: إننا نقبل، نيابة عن الشعر، التحية المرفوعة إليه هنا، لكن لا تحية باتت ترفع الآن من أجل الشعر، ويبدو أنه لا شيء من ذلك بات ممكن الحدوث. 12941-893ea186-2af6-48e3-bb02-3b92ae74f59a 357990910_170765812527397_3472866143442899588_n 358008172_279151621452870_6644688164451542482_n