نعدو خلف الأدب الجيد الذى يجذب القارئ حتى النهاية فيترك له فى تلك النهاية مفاجأة أو إدراك مختلف أو حكمة داخلية، وفى معيارى الشخصى يكون الأدب أكثر تميزاً عندما يحمل هماً ذاتياً ينبثق من هموماً جماعية تختزل فى اليومى والعادي، وهذا تحديدا ما قام به الكاتب محمد عبدالمنعم زهران فى مجموعته القصصية»سبع عربات مسافرة» الحاصلة حديثا على المركز الثانى بجائزة يوسف إدريس فى القصة القصيرة. يكتب محمد عبدالمنعم زهران القصة القصيرة بالأساس، وإلى جانبها المسرح وقصة الطفل، أول إصداراته كانت مسرحية «أشياء الليل» وصدرت عن دار سعاد الصباح بالكويت عام 2000 بعد أن فازت بجائزتها، وأتبعها بمجموعة «حيرة الكائن» التى فازت أيضًا بجائزة الشارقة للإبداع 2002، مر بفترة توقف دامت حتى عام 2013 وهو العام الذى أصدر فيه مجموعته الثانية «بجوارك بينما تمطر» عن دار الأدهم للنشر، ومسرحية «زيارة عائلية» التى نشرت نشرًا محدوداً. وفى العام 2017 صدرت مجموعته الثالثة «سبع عربات مسافرة» عن دار النسيم، وكذلك سلسلة «أنا ومجتمعي» وهى سلسلة قصص أطفال صدرت عن دار أصالة ببيروت. وأخيرا مجموعته الرابعة «هندسة العالم» عن منشورات المتوسط هذا العام. لديه مسرحية تحت الطبع فى سلسلة نصوص مسرحية، كما أن هناك مشروعًا لكتاب نصوص مونودراما. ■ كيف تبلورت فى ذهنك أفكار قصص المجموعة؟
لدى عادة غريبة فى الكتابة، فى بعض قصصي لا أبدأ الكتابة بفكرة جاهزة، قد يكون هذا غريبًا، ولكنى أحبه، عادة أبدأ بجملة ما، ولا أعرف تحديدًا ما الذى ستفضى إليه، وما هي الحكاية التي ستتشيد تبعاً لذلك، حدث هذا فى العديد من قصص المجموعة مثل» الحياة ليست آلة» و»احتفال بسيط» وغيرهما. فى أحيان أخرى، أحدد مسبقًا الفكرة التى أود كتابتها، كقصة «أصابعى منك فى أطرافها قبل» ولكن كل تتخلق التفاصيل المتعلقة بالقصة أثناء الكتابة. ■ بصفتك حاصلا على جائزة يوسف ادريس فى رأيك ماذا تضيف الجوائز للكتاب؟ الجوائز تضيف تواجداً مهمًا وتمنح الكاتب دفعة معنوية كبيرة، هى إحدى آليات تحقيق الرواج للكاتب وكتاباته، لم يكن هذا متاحًا فى الجوائز التى حصلت عليها من قبل، قبل ظهور شبكات التواصل والمواقع الاخبارية الالكترونية، لذا بالنسبة إلىّ هذه الجائزة مهمة جدًا. التحدى الحقيقى من وجهة نظرى هو الوصول إلى القارئ، والجوائز تساعد بصورة كبيرة على لفت انتباه القارئ، على الأقل إثارة فضوله. ■ كيف تصف المشهد الأدبي فى الصعيد القصصى بشكل خاص؟ فى الحقيقة أزعم أن محاولات كتّاب القصة فى التجريب والبناء والتفرد أكبر وأهم كثيرًا من محاولات كتاب الرواية، وهذه ميزة نسبية لصالح القصة، هناك كتاب يواصلون كتابة القصة بإخلاص تام، وآخرون يعودون لكتابة القصة بعد أن هجروها للرواية فى وقت ما، واللافت جدا للنظر هو وجود مبدعين شباب رائعين يكتبون القصة القصيرة بصورة رائع، ينقصهم فقط أن يشار إليهم. ■ اعتمدت كليا على الفصحى حتى انك استبدلت العامية فى الحوار بالفصحى، ألم تشعر بحاجة بعض المقاطع الحوارية للعامية البسيطة؟ فعلا أحب أن تكون حواراتى بالفصحى البسيطة، ولكن هذا لا يمنع أبدا أن أستخدم العامية كما فى بعض الجمل الحوارية فى قصة « المعنى العميق لطعم الشيكولاته» القصة الوحيدة التى قاومت فيها استخدام العامية رغم انها كانت ضرورية هى «ولد طيب بجواري» حدث هذا بصورة تلقائية، لأننى شعرت أن تحويل حوار المتشردة العجوز للعامية، سيفقدها ثقلاً غامضًا أريده. ■ كيف تأثرت أفكارك ومفرداتك بتراث الصعيد المميز؟ تراث الصعيد ربما لم يظهر فى كتاباتى كمفردات أو فضاءات مكانية، ولكن الواقع أن الحكى الخيالى والأسطورى فى الصعيد كان له الأثر المهم جدا فى طريقة بنائي للقصص، وحتى فى تطوير النصوص نفسها. فالحكى فى الصعيد لا يخضع لطرق الحكي التقليدية. ■ حدثنا عن قصتك «سبع عربات مسافرة» والتى تصدرت المجموعة كعنوان لها؟ هذه مثال لتلك القصص التى لم أخطط مسارها مسبقًا، بدأت الكتابة عن رئيس قطار يبدأ جولة لتفقد ركابه، هكذا فقط، رصد الأجواء المعتادة لقطار يركبه عامة الناس، وكالمعتاد بدات أنتظر أن تنبثق الحكاية، كان ذهنى يدور حول استكشاف حكاية ما، ومع تواصل السرد، انبثقت فكرة حادثة القطار الشهيرة، وهنا بدأت العمليات الواعية فى البناء، فتحول رئيس القطار والركاب إلى مشهد متخيل، وبدت العربات السبع التى احترقت وكأنها ما تزال تمضى فى سفر متواصل، ليصبح دور رئيس القطار هنا هو فقط المساعدة في تنفيذ أحلام ورغبات الركاب. نهاية القصة هزتنى هزًا بمجرد أن فكرت فيها حتى قبل أن أكتبها، كان ذلك عندما انبثقت شخصية كاتب آخر داخل القصة، كان من ركاب القطار، وتردد كثيرا فى النزول، ولكنه استمر فى القطار ليلقى حتفه مع بقية الركاب، وبدا أن شغله الشاغل فى هذه الرحلة السرمدية هو كتابة أحلام الركاب البسطاء وأمنياتهم. ■ تناولت فى أكثر من قصة عبر المجموعة حيوات لأطفال فتك بهم المرض مثل قصة روح البهجة، وبين سحابة واخرى حدثنا عن اهتمامك بهذه القضية؟ ملاحظتك مدهشة، أنا نفسى لم أفطن إليها! فعلا هناك قصتان حول هذا الموضوع، ربما أجد تفسيره الآن فى مسار اهتمامى بالأعمال التطوعية فى الجمعيات الأهلية، وانخراطي فى تفاصيلها، وبالتبعية أرى كثيرًا من هذه الأمور ومثيلاتها، هذا مجرد تفسير، ولكن صدقًا لم أقصد أن أكتب عن هذا تحديدًا. ■ فى قصة» أصابعى منك فى أطرافها قبل» افردت مساحة لوجهات نظر مختلفة للحكى فحدثنا عن استخداماتك لتقنيات القص المختلفة؟ كل استخداماتي للأساليب السردية هو لغرضين وحيدين، أولهما تحقيق استمتاعى الشخصى بما أكتب، طوال الوقت يصاحبنى قارئ ضمنى وأنا أكتب، ويكون عليّ دائما أن أحقق إشباع هذا القارئ الضمني، وأحيانًا أخدع توقعاته. ثانيهما هو القارئ الحقيقي، لا أود أن بفلت منى القارئ أبدًا أبدًا.. أضع هذا الأمر معيارًا لنجاحى ككاتب. فى هذه القصة أردت أن أكسر رتابة السرد بصوت واحد، فبدا أن هناك حوارًا متبادلاً بين صاحب المطعم وصديقه الكاتب، وعبر هذا الحوار تتشيد القصة، ولكسر الإيهام يقترح الكاتب أن يتركا العنان للسيدة والنادل ليرويا جزءًا من الحكاية، لن يكون بمقدروهما أبدًا روايته. فى النهاية تبدو الكتابة لى كميزان مخيف وممتع فى نفس الوقت، نراقب كفتيه أنا وقارئ الضمني. ■ شغلت على مدار المجموعة بالعديد من القضايا الانسانية ورسمت بها لوحة قصصية عالية المشهدية كما فى قصة»ولد طيب بجوارى» فكيف تقرر تحويل مشهد عادى الى قصة تنبض حياة؟ الأمر ببساطة هو أن أترك الحدث أو الشخصية لتتحرك كما تشاء، كما قلت من قبل أنا لا أفرض حدثًا معيناً، كما ما يحدث فى القصة يفرضه السرد. ملاحظتك ذكية جدا فى هذه القصة تحديدًا، فالمشهد العادى يتعلق بشخصية يؤرقها أمر رائحة غريبة، وأؤكد لك أنه فى هذه اللحظة وأثناء الكتابة، كنت على نفس الدرجة من الحيرة، أى شيء يؤرق هذه الشخصية؟! تركت القصة ليوم أو يومين وعدت إليها، وفجأة انبثق السبب، لى وللشخصية فى ذات الوقت، بإمكانى أن أصرح لك أننى بكيت بكاءً حقيقيًا مع جملة نهاية القصة. هذا ما حدث فعلاً. ■ حدثنا عن مشاريعك القصصية القادمة؟ أنا فوضوى فى هذا الأمر، لا أخطط لمشروعات كتابية، ربما أتوقف عامًا أو أكثر، وأعود لأقول لنفسي، أريد أن أكتب جديدًا، أدخل ببطء فى مغامرة الكتابة. ولكن مشروعى القائم دائمًا هو أن أصنع منجزًا قصصيًا مميزا، وحاليًا أحاول أن أضع نفسى فى مجال يسمح لى بأن أبدأ كتابة مجموعة جديدة. كما أنوى إعادة طبع مجموعة «بجوارك بينما تمطر» لأنها نسخها نفدت، وهى من أهم مجموعاتى القصصية التى أحرص أن تكون متاحة للقراءة.