منذ أن عرف الإنسان الكتابة وقد اتخذ الكثير من الأدوات التى يكتب بها.. وبغض النظر عن مسمى مخطوطات أو برديات أو غيرها، فإن ما كتبه الإنسان عبر عصور التاريخ المختلفة يمثل ثروة قومية لا بد من الحفاظ عليها.. أنقذوا تاريخ مصر والإسلام المكتوب على ورق.. عبارة تمثل صرخة ينادى بها علماء ومتخصصون كثيرون فى الآثار والتاريخ لإعادة اكتشاف ودراسة والحفظ الجيد لعشرات الآلاف من المخطوطات والبرديات التى تمتلكها مصر. وفى سبيل هذا حاورنا كلًا من الدكتور محمد عبد اللطيف أستاذ الآثار الإسلامية والقبطية بجامعة المنصورة والرئيس السابق لقطاع الآثار الإسلامية والقبطية وله دراسة علمية مهمة حول الموضوع، والدكتور ابراهيم العسال المحاضر فى الآثار والمخطوطات الاسلامية بجامعة قرطبة فى اسبانيا وعضو لجنة التراث الثقافى بالاتحاد الأندلسى، وكشف لنا الاثنان عن تصورهما لكيفية حماية تاريخ مصر والمسلمين المكتوب على بردى ومخطوط. البردى من أهم النباتات المصرية القديمة.. حقيقة لا تقبل الجدل خاصة أنه النبات الذى صنع منه أقدم ورق كتابة فى العالم ويرجع تاريخه إلى سنة 2000 – 3000 ق.م، وقد اكتشف سنة 1880م فى مقابر الفراعنة وكان لهذا النبات دور كبير فى الحضارة المصرية منذ فجر التاريخ وحتى وقت متأخر من العصور الوسطى فى الحضارة الإسلامية. الدكتور محمد عبداللطيف أستاذ الآثار الإسلامية والقبطية بجامعة المنصورة والرئيس السابق لقطاع الآثار الإسلامية والقبطية بوزارة الآثار له دراسة مهمة عن «البرديات العربية»، وقام فى سبيلها بالبحث وزيارة أكثر من 60 مدينة وقرية فى أوروبا وأمريكا، ورأى الكثير منها فى دول مثل ألمانيا وإنجلترا وغيرهما، وكشف فى دراسته عن خطأ شائع مفاده أن البردى هو فقط الذى يعود للعصر الفرعونى، موضحا أن البردى فى الحقيقة ظل مستخدماً فى مصر بعد دخول الإسلام لمدة أربعة قرون كاملة حتى القرن 4ه / 10م واكتشاف صناعة الورق، ولهذا فقد وصل إلينا آلاف البرديات العربية أى التى كُتبت نصوصها باللغة العربية. وطبقا لهذه الدراسة التى كشف ل«روزاليوسف» اليومية تفاصيلها، فكما تعددت أسماء البردى فى اللغة المصرية القديمة، فقد امتازت بوفرتها أيضا فى اللغة العربية، فذكره العرب بأسماء كثيرة منها «بردى–بُردى– بردية–قرطاس»، لقد وردت كلمة قرطاس فى القرآن الكريم فى قوله تعالى» ولو نزلنا عليك كتابا فى قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين»صدق الله العظيم، كما أن اسم الورق Paper فى اللغات الأجنبية راجع إلى اشتقاقه من لفظ Papyrus . ويعتقد أن المدن التى اشتهرت بزراعة نبات البردى هى نفسها المدن التى تميزت بصناعة أوراق البردى، وذلك لأن نبات البردى نبات سريع التقصف ولا يتحمل مشقة النقل إلى أماكن بعيدة لتصنيعه ورقا، كما أن مصانعه لا تتطلب أجهزة وأدوات كثيرة، وقد استمر البردى فى مصر يقوم بدوره الحضارى المهم طوال عصورها التاريخية حتى الحكم الرومانى البيزنطى، والذى كان غاية فى السوء فى معاملة المصريين وإثقال كاهلهم بأعباء الضرائب، فهيأ الروم بذلك للعرب الأسباب لفتح مصر التى نقم أهلها على الحكم الرومي، وودوا الخلاص منهم وبهذا أتيح لعمرو بن العاص فتح مصر بجيشه القليل فى عام 21ه / 642م وذلك بإتمام فتح الإسكندرية.وبعد دخول العرب المسلمين إلى مصر واستقرارهم بها وجدوا أن الورق فى مصر كان يصنع من نبات البردي، وقد كان العرب يعرفون قراطيس البردى قبل الإسلام بدليل ظهور اسم هذا النبات فى قصائدهم الشعرية، إما صراحة «البردى» وأما بإحدى أوصافه المعهودة فى هذه الفترة، وبناء على ذلك يمكن القول بأن البردى كان معروفا للعرب فى جاهليتهم وبعد ظهور الإسلام إلا انه كان يستعمل على نطاق محدود للغاية، وبدأ استعماله بشكل بسيط نسبيا فى عهد الخليفة أبى بكر الصديق، ثم ادخل فى عمل الدواوين فى عهد الخليفة عمر بن الخطاب خاصة بعد فتح مصر على يد عمرو بن العاص. وتتابع الدراسة بالتأكيد على أن العرب لم يغيروا النظام السائد فى البلاد فاستعملوا البردى أيضا فى مراسلاتهم وشئونهم الخاصة فى وقت مبكر من دخول مصر، وظل البردى يتصدر مواد الكتابة الأخرى فترة كبيرة من الزمن وربما كان المادة الأساسية للكتابة طوال عصر بنى أمية، لهذا قام عمرو بن العاص بالإبقاء على مصانع البردى، لإدراكه أهمية هذا الورق لإنجاز المكاتبات وسائر المعاملات والمراسلات بين حاضرة الخلافة الإسلامية وسائر الأقاليم التابعة لها. وقد ظل البردى يحظى بعناية ورعاية كبيرة من قبل الولاة المتتابعين على مصر، وذلك لأن البردى اعتبر ثروة قومية لسد حاجة الدواوين وسائر مكاتبات الخلفاء للولاة والعمال والقضاة ورجال الشرطة وأصحاب الحسبة ورجال الجزية والخراج، وتم الإبقاء على الصناع الذين كانوا من الأقباط واقبلوا على إنتاج كميات وفيرة من أوراق البردى فى مصانع متعددة أشهرها وأقدمها فى مصنع الإسكندرية، وبعد فتح مصر دخلت مصانع البردى تحت سيطرة المسلمين فى عهد الخليفة عمر بن الخطاب وما تلاه من عهود فى الدولتين الأموية ثم العباسية. وكشف عبد اللطيف فى دراسته وجود أعداد هائلة من البردى خاصة من العهد الأموي، وغالبيتها محفوظ حالياً فى عدد كبير من المكتبات والمتاحف والجامعات ودور الكتب العالمية خاصة الأوروبية وبالتحديد النمساوألمانيا، غير أن سيادة ورق البردى لم تدم طويلا إذ أنه فى زمن الخليفة العباسى هارون الرشيد (170 – 193ه / 786 – 808م) ظهر المنافس القوى للبردى ألا وهو الورق قادماً من الصين، وقد فضله المسلمون وغير المسلمين ومعه ضعفت صناعة ورق البردى فى مصر فى القرن الرابع الهجري، إلا أن ذلك لم يمنع استمرار استخدام ورق البردى 3 قرون هجرية كاملة، حتى أننا نجد العديد من الوثائق الإسلامية منفذة على ورق البردى بعضها يرجع للعصر العباسى الأول (132 – 155ه/750 - 772م)، والعصر العباسى الثانى (295 – 333ه/ 907 – 935م)، كما توجد برديات عربية مؤرخة بالقرن الخامس الهجرى وبالتحديد عام 480ه / 1087م. ما فائدة دراسة البرديات العربية؟..هذا السؤال وجهناه للدكتور محمد عبد اللطيف ووجدنا الإجابة عليه فى الدراسة، خاصة فى معرفة كثير من نواحى الحضارة الإسلامية مثل القوانين المنظمة والفنون والصناعات والحرف والوظائف والقلاقل والانتفاضات والمعاملات بين المسلمين وأهل الذمة والمنتجات الزراعية وأسعار السلع، كما لعبت البرديات العربية دورا كبيرا فى دحض الأكاذيب والافتراءات التى روجتها مجموعة المستشرقين وتشويه صورة الفتوحات الإسلامية فى الأقاليم المفتوحة، كما فندت الوثائق البردية زعم المستشرقين أن المسلمين نشروا الدين الإسلامى بالسيف والنار. وطالب عبداللطيف فى نهاية دراسته بأن علم البردى العربى يجب أن يأخذ حقه الكامل فى مصر من العناية والرعاية، حيث يوجد الكثير من البرديات العربية التى لم تتم دراستها حتى الآن ربما تكشف عن جوانب أخرى مهمة فى مجالات عديدة للحضارة الإسلامية فى مصر، بينما تهتم كثير من جامعات ومعاهد أوروبا وأمريكا بدراسة البرديات العربية لإدراكهم أهميتها، خاصة فى جامعة هايدلبرج بالمانيا وجامعة ليدن بهولند والمكتبة الوطنية بالنمسا ومعهد الدراسات البردية فى زيورخ بسويسرا وجامعتى ميتشجان وبرنستون بأمريكا.