عقب أحداث باريس الدامية منتصف نوفمبر الجارى، تردد اسم بلجيكا كثيرًا فى السباق المحموم لتعقب الإرهابيين. ولم تعد صورة الدولة الصغيرة الواقعة فى غرب أوروبا ترتبط بالشيكولاتة وأفخم أنواع العطور وتجارة الماس والمجوهرات بل بالخطط الإرهابية التى تتعدى الحدود. وأثبتت التحقيقات أن خيوط العملية الإرهابية تتجمع فى بلجيكا خاصة حى «مولينبيك» من حيث السيارات المستخدمة والعقل المدبر للهجمات عبد الحميد باعود والأخوين صلاح وابراهيم عبد السلام من مرتكبى الهجوم. تعود صحيفة «الجارديان» للوراء فمنذ عشرين عامًا عثرت الشرطة فى بلجيكا على منشورات للجماعة الإسلامية المسلحة بالجزائر «جى آى إيه» فيما يعتبر سابقة من نوعها فى القارة البيضاء وكانت فيها إعلان الولاء لتنظيم القاعدة وزعيمه أسامة بن لادن. والجماعة الإسلامية المسلحة هي منظمة سعت لإسقاط الحكومة الجزائرية وإقامة دولة إسلامية منذ عام 1992، احتجاجًا على إلغاء نتائج انتخابات ديسمبر 1991، والتي فازت بها جبهة الإنقاذ الإسلامية. وعلى مدى عقدين أصبحت بلجيكا ملاذًا لكثير من الجماعات المتطرفة التى ضربت جذورها فى البلاد مثل منظمة «إيتا» الانفصالية وجماعة الجيش الأحمر الشيوعية الألمانية والجيش الجمهورى الأيرلندى وغيرها. وتضيف الصحيفة أنه قبل يومين فقط من أحداث سبتمبر 2001 قتل القائد الأفغانى أحمد شاه مسعود عدو جماعة طالبان على يد أثنين من الأرهابيين دخلوا كابول بجوازات سفر بلجيكية.. كما جاء منها حسن الحسي الذي شارك فى تدبير اعتداءات مدريد عام 2004 ومهدي نموش المشتبه به الرئيسي في الاعتداء على المتحف اليهودي ببروكسل مايو 2014. وأقام فيها أيضا أيوب الخزاني منفذ الهجوم على قطار تاليس بين امسترداموباريس أغسطس الماضي. فلماذا بلجيكا بالذات؟ كالعادة تأتى الجغرافيا كأحد أبرز العوامل فبلجيكا ذات موقع استراتيجى تتوسط فرنسا وألمانيا وبريطانيا ولها حدود مشتركة مع أربع دول هى فرنسا وألمانيا ولكسمبورج وهولندا.وهى جزء من منطقة تشينجن ويستطيع أى شخص أن يعبرها بالسيارة فى ساعتين. ثانيًا، تتيح بلجيكا للراغبين فى الخصوصية مكانًا مثاليًا للاختباء والتخفى خاصة فى الأماكن ذات التركيبة الديموجرافية غير المتجانسة فعصابات تهريب الماس والسلاح ووتبييض الأموال تجد فى بلجيكا ملاذًا لنشاطها.. ولعل حى مولينبيك خير مثال فهو واحد من 19 من أحياء العاصمة بروكسل ويتسم بكثافة سكانية مرتفعة فعدد سكانه مائة ألف نسمة حوالى 30 % منهم من جنسيات أجنبية و40 % منهم بلجكيون من أصول أجنبية أغلبهم أتراك ومغاربة ومن أفريقيا الوسطى.. ويعانى ربع شباب الحى – حسب صحيفة لو سوار البلجيكية – من البطالة خاصة ذوى الخلفيات العربية والإسلامية، ولم يحقق الجيل الثالث والرابع من ابناء المهاجرين تقدمًا ملحوظًا على مستويات عدة ما جعلهم أكثر عرضة للتطرف.. وهنا يشيرالمحللون إلى قصور بلجيكا فى احتواء المهاجرين خاصة نحو 650 ألف مهاجر من المسلمين ودمجهم فى المجتمع البلجيكى. والنقطة الثالثة اختلاف التجربة الإسلامية فى بلجيكا عن غيرها من دول أوروبا لنقص الأئمة ممن تعلموا وعاشوا فيها، حيث يستعان برجال دين من الخارج. وتذكر صحيفة ستار الكندية أن التطرف ترعرع فى بلجيكا بسبب تجاهل السلطات الأمنية للأمر وتؤكد أن زعيم جماعة «الشريعة فور بلجيكا»المتطرفة أدار لسنوات عدة شبكة خطيرة لتجنيد مقاتلين فى سوريا ورغم ذلك لم يحكم عليه إلا منذ شهور قليلة فقط بالسجن 12 عامًا. العامل الرابع هو سمعة بروكسل خاصة منطقة «ميدى» السيئة فى تجارة الأسلحة غير المشروعة وتنامى وجود عصابات الجريمة المنظمة، ويذكر أن كثيرًا من الأسلحة المستخدمة فى حرب البلقان فى تسعينيات القرن الماضى تم تهريبها لبلجيكا. كما تعانى الأجهزة الأمنية فى بلجيكا وفقًا لصحيفة «الإيكو» من وجود حالة من تضارب التخصصات ونقص الميزانية بسبب سياسات التقشف. وساعد على ذلك أن المناطق الأمنية فى مدينة مولينيبك ست مناطق بينما فى مدينة نيويوركالأمريكية ذات ال 8.4 مليون نسمة لها جهاز شرطة واحد. وتضيف الجارديان أن بلجيكا لديها أجهزة أمنية محدودة نسبيا ويقل لديها ما يعرف بثقافة المخابرات، التى يعمل فيها ألف عنصر فقط رغم أن بروكسل هي عاصمة الدبلوماسية في العالم فهى تستضيف منظمة حلف شمال الاطلسي ومؤسسات الاتحاد الأوروبي ومنظمة الجمارك العالمية.. كما أن لطبيعة النظام السياسى والمجتمع فى بلجيكا - نتيجة لميراث تاريخى طويل يسود فيه الصراع والانقسام اللغوى ما بين 6.5مليون شخص ناطق بالألمانية و4.5 مليون آخر ينطقون بالفرنسية – أثره فى غياب رقابة صارمة على مناطق تتمتع باستقلال نسبى عن الحكومة المركزية فترعرع الإرهاب.. وأخيرًا، وفقا للمركز الدولي لدراسة التطرف والعنف السياسي، تحتل بلجيكا المركز الأول فى أوروبا فى عدد المقاتلين الأجانب، إذ سافر 272 بلجيكيًا للجهاد فى صفوف تنظيم داعش فى سوريا والعراق. والغريب أن منظمة بلجيكا لمكافحة الإرهاب أصدرت قائمة فيها أكثر من 800 شخص تعتبرهم المخابرات البلجيكية ارهابيين منهم بلال حذيفى والأخوين عبد السلام ممن شاركوا فىهجمات باريس.. ليظل السؤال لماذا لم تمنع هذه المعلومات وقوع هجمات فرنسا ومالى؟ ولماذا تجاهلت السلطات تلك المؤشرات؟ والسؤال هو ما الذى يجذب الجماعات المتطرفة لبلجيكا؟ ولماذا هى حاضنة لأكبر موجة إرهاب تضرب أوروبا والعالم؟