صادف يوم 20 من نوفمبر الجارى الذكرى رقم 105 لوفاة الروائى الروسى الأيقونة ليو تولستوى الذى ولد فى 9 ديسمبر 1828 وتوفى فى عام 1910، ويعتبر «تولستوى» من أهم رواد الأدب الروسى على مر التاريخ ومن أشهر أدباء البشرية الذى قدم العديد من الروايات والمجموعات القصصية والمؤلفات التربوية والفلسفية لعل أشهرها رواية «الحرب والسلام» ورواية «آنا كارنينا» وترجمت أعماله إلى لغات عديدة ومنها اللغة العربية. ولد تولستوى فى ضيعة اياسيانا بوليانا الواقعة فى مقاطعة تولا الروسية سنة 1828 وكان أصغر أخواته الأربعة الأولاد وتذوق تولستوى منذ صغره مرارة الفقد، حيث ماتت أمه وهو لم يتجاوز العامين من عمره ثم مات والده الكونت تولستوى وعمره عشر سنوات فتنقلت مسئولية رعايته هو وأخوته بين جده وعمه وعمته. ورغم ذلك كان لأبويه الأثر الكبير فى تكوين القريحة الإبداعية لدى تولستوى، فوالده الذى اشتغل بالزراعة فى الأرض التى ورثها عن والده الإقطاعى كان يحب المطالعة وكان يمتلك مكتبة واسعة فيها قسم للأدب الفرنسى مما شكل عاملًا حيويًا فى اهتمام الصغير بعالم الأدب. كما يعتقد أن تولوستوى ورث جينات المعرفة الإنسانية من والدته، إذ كانت تجيد العديد من اللغات بجانب الروسية مثل الإنجليزية والألمانية والفرنسية والإيطالية. تلقى تولستوى تعليمه الابتدائى على أيدى مدرسين للغة الفرنسية والألمانية، فى عام 1843 التحق بالجامعة ليدرس اللغات الشرقية، إلا أنه هجر الدراسة بعد أربع سنوات دون الحصول على شهادة تخرج وانطلق فى رحلة لعالم الأدب والكتابة ورحل فى بدايتها إلى مدينة سانت بطرسبرج وهناك عاش حياة اللهو. وفى عام 1853وهو ابن خمسة وعشرين عاما التحق تولستوى بالجيش الروسى وأرسل ضابطًا فى منطقة القوقاز جنوب غرب روسيا واشترك فى حرب القرم، فى الفترة حتى عام 1856 وأظهر شجاعة فى معركة «سيفا ستوبول» إلا أنه كره الحروب ووهب قلمه لنبذها. وظهرت موهبته المبكرة حيث قام بتأليف سيرة ذاتية فى مؤلفاته «مرحلة الطفولة» و«فترة الصبا» فى1854 أثناء حرب القرم، وعمد إلى التجول فى أوروبا بعد الحرب حيث تعلم طرق التربية والتعليم الحديثة فى غرب القارة واستلهما فى ضيعته «ياسنايا بوليانا» عندما افتتح مدرسة لأبناء الفقراء وأصدر مجلة تربوية حينذاك. ونأتى لفصل هام من حياته ألا وهو قصة زواجه وحياته الأسرية فقد تزوج «سونيا» الفتاة الارستقراطية الجميلة ابنة السابعة عشرة وهو فى الرابعة والثلاثين من عمره بعد قصة حب رومانسية وكانت وفقًا لكلماته زوجة رائعة أنجب منها ثلاثة عشر طفلا وكانت مع ذلك زوجة مثقفة تخرجت فى جامعة مرموقة، تجيد الفرنسية والألمانية والإنجليزية. ساعدت الأديب فى كتابة مؤلفاته وإعدادها للنشر وعاش معها عقود طويلة حياة أسرية رائعة. إلا أنها شهدت فى النهاية تحولًا مأساويًا عندما حاول تولستوى التجرد من مظاهر الثراء، ومر فى حياته بصراع عنيف مع الكنيسة فنبذته الكنيسة من مظلتها بقرار حرمان كنسى ومنعت كتبه عام 1901، أى قبل وفاته بتسع سنوات. قدم تولستوى للإنسانية ميراثًا هائلًا من الأعمال التى تنوعت بين الفلسفة والإصلاح والروايات، لعل أشهرها رواية «الحرب والسلام» التى تعد من أروع ما كتب تولستوى ونشرت كاملة عام 1869 وهى ملحمة تاريخية لحياة خمس أسر روسية، استعرض فيها ما يمر به الإنسان خلال مراحل حياته المختلفة على خلفية من الأحداث السياسية والعسكرية التى كانت تموج بها قارة أوروبا فى الفترة من عام 1805 إلى عام 1820وتركز على غزو نابليون بونابرت لروسيا عام 1812. ومن أرائه فى رواية الحرب والسلام أن التاريخ لايُصنع بواسطة من يطلقون على أنفسهم أبطالًا. وخرجت روايته الملهمة «آنا كارنينا» عام 1877وفيها ينتقد الطبقة الارستقراطية التى كان ينتمى إليها فى النصف الثانى من القرن 19. وكان لتجربة الحرب أثرها عليه فقدم تولستوى أعمالا تسجل فى مصاف أدب الحرب مثل «الحرب والسلام» و«أقاصيص سيفاستوبول» عام 1855، عن قصة حصار مدينة سيفاستوبول فى شبه جزيرة القرم فى الفترة من 1854 - 1855. وتأتى رواية «القوازق» عام 1863 لتسجل صراع الإنسان العاطفى فى زمن الحرب. ولتولستوى عدد من المؤلفات الإصلاحية والفلسفية، ففى عام 1882 نشر كتابه «اعترافاتي» الذى اتخذ فيه منحى فلسفيًا عبر خلاله عن عذاباته وحيرته. ويعكس كتابه «ماهو الفن» مبدأه الذى انبثق عنه صراعًا دائمًا داخل المبدعين وهو الفن للحياة ودور الفن الأخلاقى والثقافى، كذلك جاء مؤلفه «مملكة الله داخلك» دعوة للبشر للبحث عن الخير فى أعماقهم. وتأتى مرحلة هامة فى حياة تولستوى الإبداعية أواخر القرن التاسع عشر انتقل فيها من أدب الارستقراطية إلى أدب الواقع وفيها استمد رسالة أعماله من مقولة الفن للحياة مثل قصة «وفاة إيفان أليش» عن فلاح فقير على فراش الموت ورواية «الحاج مراد»عن زعيم إحدى القبائل فى جبال القوقاز والتى عمد فيها إلى الكشف عن انهيار وفساد النظام السياسى والاجتماعى الروسى حينذاك. كانت رسالته فى أدبه دومًا نبش مكنونات العقل والنفس للإجابة عن السؤال الأبدى الذى طالما أرق الأدباء والفلاسفة ما هو معنى الحياة؟ واتسمت كتاباته بحب الحياة وقبول الواقع ونشر ثقافة المغفرة والتسامح. وحمل تولستوى المبدع والإنسان كثير من التناقضات وبذور الصراع الداخلى والتى تبلورت فى أعماله وانتقلت لقرائه فهو كان ينتمى لأسرة أقطاعية فى روسيا فى القرن التاسع عشر إلا أنه مع تقدمه فى العمر رفض مظاهر الثراء وتملك القصور والإقطاعيات وتجرد منها منطلقًا يبحث عن شظف العيش بين الفقراء فى أكواخهم. كما أنه كان رجلًا عسكريًا شارك فى حروب عديدة منها حصار سواستبول عام 1851 وحرب القوقاز وشارك فى الحرب الروسية الشيشانية، إلا أنه رفض الحروب بعد أن خبر مآسيها. وقضى تولستوى شطرًا كبيرًا من حياته التى تجاوزت الثمانين عامًا فى صراع للتعبير عن رأيه المضاد لسلطة الكنيسة والسياسيين وكذلك الثورة البلشفية رغم أنه فى البداية تحمس لمبادئها من نبذ النظام الإقطاعى والقيصرى ورغم أن البلاشفة اتخذوا من مبادئ وتعاليم تولستوى ستارًا أخلاقيًا للدورهم القمعى فى التاريخ. وظهر وجه تولستوى المقاوم للظلم والقمع سواء الدينى أو السياسى ففى روايته «البعث»عام 1899 انتقد سلطة الكنيسة الأرثوذكسية ورفض عنف الثوريين فى بدايات القرن العشرين. ويعكس مشهد نهاية حياة أديبنا زخم الصراع الذى عاش فيه تولستوى أواخر أيامه بين رغبته فى التخلى عن ممتلكاته وعائد بيع مؤلفاته ومشاركة الفقراء معيشتهم الضيقة وبين زوجته وأسرته لذا تخلى عنهم ورحل برفقة طبيبه وأحد تلاميذه فى قطار من الدرجة الثالثة بهدف الوصول لأحد الأديرة مما أسفر عن تدهور حالته الصحية وليموت وفقًا لبعض الروايات فى مكتب مدير محطة القطار فى محطة «اسكابوفا» فى 20 من نوفمبر عام 1910. ويقال أن أخر كلماته هى « لقد انتهى كل شىء، تلك هى النهاية، وهذا لا يهم».