معظمنا لا يحب دخول أقسام الشرطة، والبعض منا لا يتمني التعامل مع رجالها، بل إن الأمر قد يصل لكراهية البعض الآخر مجرد المرور أمام مبانيها، بتأثير إرث طويل من حضور شك وغياب ثقة، أكثرنا يردد: رجل الشرطة في العالم الثالث أو الخامس يتعالي دوما علي غيره من عباد، يختال مظهرًا ويتشدد تعاملا، معتقدا معظم الوقت أنه مواطن مميز، وبعض الوقت أن علي الآخرين مجرد السمع والطاعة، ويتندر المواطن أحيانا علي شعارات: الشرطة في خدمة الشعب أو كلاهما معا في خدمة الوطن حيث الواقع لديه أن الجميع في خدمة الباشا، وحيث وصل الأمر لسماع مقولة: دولة أمين الشرطة «الباشا الصغير».. وحتي ثبت وجود شبهة خلل في مجال التعامل بين الجمهور والشرطة، وهذا حقيقي لنكن صرحاء، الجهاز.. جهاز الشرطة أقصد تشويه نقاط ضعف تغذيها أمور عديدة نتعمد تجاهلها عموما، تتضح عبر حوار هنا وهناك يخص الجهاز المذكور عن عسكري المرر فما فوق، يتضمن مقولات ثابتة تقول عن سوء معاملة الجمهور، وتجاهل حقوقه المدنية، وبطء الإجراءات أحيانا، والتباطؤ في نجدة الناس أحيانا أخري والأمين يتنمر والملازم يتجبر، بينما المواطن يتحمل كارها، ويبدي القبول متظاهرا. دعوني أتحدث بالمناسبة عن أمور قد تبدو شخصية، أو هي بالفعل كذلك لكنها نموذج مشترك مع آخرين. 1- عشت سنوات في الولاياتالمتحدة. وفي كل ولاية كان الجميع يشكو من فساد الشرطة هناك، وقد مرت بي تجارب أو شاهدتها «تتعاطي» فيها الشرطة رشاوي.. ربما علنا في تجسيد لافساد مركز ومتصل ويعرف من عاش منا طويلا في الغرب: أشكال فساد جهاز الشرطة في إيطاليا مثلا، وفي اليونان مثلا.. وفي غيرهما حتي وإن كان ذلك لا يشمل إلا القلة من رجال ذلك الجهاز.. وهي طبيعة بشرية علي أي حال. 2- ومع كل ما سبق أذكر أن ابن أخي عقيد شرطة وأن ابن اخي الثاني عقيد طبيب «جيش هذه المرة»، وكثيرا ما كنت حاضرا حالات تعامل أحدهما مع الجمهور، وكثيرا ما أشفقت مثلا علي عقيد الشرطة وهو يعاني سهرا وقلقا وتوترا، مع بيات بالخارج، وابتعاد عن أطفاله، وغياب عن مناسبات اجتماعية وغير ذلك من معاناة يعرفها كل من له اخ أو ابن يعمل في مجال الأمن. كنت أري ابن اخي هذا.. وهو ذو طبيعة هادئة، وطبع مهذب منذ صغره، وتدين معتدل، مع تعاطف صادق يشهد به الآخرون، شاب يعشق الموسيقي ويحب الاطلاع، ويقتني الكتب ويطالع الأبحاث في العديد من مجالات، ينعكس ذلك كله علي حب الناس دوام التعامل معه، وميل الجيران الاختلاط به وبأسرته الصغيرة. قد تقول إن شهادتي - كما يقولون مجروحة لأنه بمثابة ابني - حسنا أكرر أن حكمي عليه لا يختلف كثيرا عن حكم الآخرين.. «سليم»؟!.. لكن في موقف آخر يتحول ابن أخي بحكم الضرورة والمنطق والحق إلي اتجاه مختلف نوعا.. ذلك أن طبيعة الموقف، والمواطن، والظرف تختلف ثم قل لي بالله عليك: هل يدعي أحد أن كل من يدخل قسم الشرطة ملاك طاهر؟ وهل يتمني أحد معاملة شاعرية لقاتل أو لص؟.. وهل يصدق أحد أن رجل الأمن يعمل في أجواء طبيعية يسهل تحملها عصبيا؟ حتي لو رفض البعض قبول شهادتي المجروحة وحتي لو تناسينا شهداء وجرحي أفراد الشرطة من خفير حتي لواء عبر مطاردة مجرم أو انقاذ مواطن أو إنصاف بريء. مرة أخري.. مثل غيري لا أحب التعامل مع رجال الشرطة أحيانا.. لكن ليس من المنطق أو الإنصاف أن اكره الرجال أو اتجاهل مجهودا يبذله الواحد منهم هنا وهناك.. حتي مع وجود استثناءات.. وتلك طبيعة بشرية.. مرة ثالثة.. فنحن علي أي حال بشر.. ولسنا ملائكة.. والشرطة مثل أي وكل جهاز فيه الصالح والطالح.. والمقبول دوما.. أن تكون الأغلبية للصالح، وأن يكون الفساد مجرد استثناء.. ومن الإنصاف إذن ابداء العرفان بالجميل، ليس لابن أخي لكن لمعظم رجال أمن بذلوا الكثير.. توفير أمن، وتحجيم خارج علي القانون، تنظيم مرور، واطفاء حريق، وغير ذلك من خدمات تبدأ من السجل المدني وتنتهي أو لنقل تتواصل في مطار المغادرة. قد نقول إن الأمور قد تتطلب ترسيخ عقد جديد بين مواطن متفهم وشرطي أكثر هدوءا.. وصبرًا.. وربما هي فرصة - حتي وإن كانت غير سعيدة - لترسيخ العقد، بعدما عانينا طويلا من غياب الأمن ومن مبيت أمام أبواب منازلنا في ممارسة دور لا نجيده.. وعبر أمن مفتقد ورجل الشرطة مفتقد، مرة أخري أيضا.. حتي مع وجود شوائب في الجهاز، مثله مثل أي وكل جهاز في أي وكل مكان يعيش فيه بشر. دعونا إذن نتجه للأفضل، ونبحث عن الأحسن، رجل وجهاز شرطة أكثر عصرية وفهما وشفافية ومواطن ومجتمع أكثر تعاطفا وتعاونا وتجاوبا مع من يمثل القانون ويدعم الأمن ويضمن الأمان. دعونا نحب أبناءنا هناك.. العاملون في ظروف صعبة، نتمني لهم كل التوفيق، متناسين ذلك الإرث الكريه من الشك في الجهاز وغياب الثقة في بعض رجاله، دعونا نتذكر دوما تلك المعاناة التي مر بها الوطن والشرطة غائبة طوعا أو كرها.. دعونا نبدأ صفحة جديدة مع أبنائنا، لصالح الجميع.. المواطن والشرطي.. والوطن. لصالح الأمن دوما. دعونا أخيرا.. نطبق بصدق مقولة: الشرطة والمواطن في خدمة الوطن».