وزيرة الاقتصاد التونسي تؤكد ضرورة توفير المناخات الملائمة للقطاع الخاص في البلدان الأفريقية    المقاومة الفلسطينية تطلق النار تجاه الاحتلال في مستوطنة "كرمي تسور" شمال الخليل    «رهينة للمتطرفين».. خطة المعارضة الإسرائيلية للإطاحة ب نتنياهو    "احتراما لكبر سنه".. رسالة من إمام عاشور على لسان كهربا    بلدغة مغربية.. أولمبياكوس يتوج بدوري المؤتمر الأوروبي    بشرى سارة لجماهير منتخب مصر بشأن مباراة بوركينا فاسو    الأهلى يحسم مصير «معلول» خلال التوقف الدولى    خالد مرتجي: الأهلي هو أول مؤسسة تدعم غزة    دون خسائر بشرية.. السيطرة على حريق محل لعب أطفال في الإسكندرية    مدير تعليم الإسكندرية يجتمع مع مدربي برنامج استراتيجيات التدريس التفاعلي    سعر السبيكة الذهب اليوم وعيار 21 الآن ببداية تعاملات الخميس 30 مايو 2024    "الصحة الفلسطينية" تعلن استشهاد مسعفين جراء قصف الاحتلال سيارتهما في رفح    وزير الإعلام الفلسطيني يدعو لسرعة التحرك لوقف العدوان الإسرائيلي ومنع مخططات التهجير    كيربي: واشنطن لم تغير سياستها بشأن استخدام أسلحتها لاستهداف العمق الروسي    رئيس البعثة العربية لحقوق الإنسان: بايدن متردد وأيده مرتعشة وخائف من إدانة إسرائيل    القاهرة الإخبارية: 3 شهداء و5 مصابين جراء قصف إسرائيلي استهداف منزلا برفح الفلسطينية    الشرطة السويدية تفتح تحقيقا عقب العثور على خنزير نافق أمام مسجد    نقيب الفلاحين: زيادة سعر رغيف الخبز خطوة نحو تغيير مفهوم الدعم    أحمد يعقوب: 14 مليار دولار حجم التبادل التجارى بين مصر والصين    نشرة منتصف الليل| منحة 500 جنيه لهذه الفئة خلال أيام وفرص عمل بالإمارات    عز العرب: تمويلات بنك CIB للطاقة المُتجددة وإدارة النفايات قفزت إلى 300 مليون دولار    ارتفاع سعر الحديد (الاستثمارى و عز) وتراجع الأسمنت بسوق مواد البناء الخميس 30 مايو 2024    عقوبة قاسية تنتظر رمضان صبحي حال ثبوت تناوله للمنشطات    الأهلي يقترب من حسم مصير الزنفلي الموسم القادم    كهربا: أنا وإمام عاشور أهلاوية ولم نقصر مع الزمالك    الحكومة: خطة لرفع الدعم عن الوقود تدريجيا بنهاية 2025 (فيديو)    استغل غياب الأم.. خمسيني يعتدي جنسيًا على ابنتيه في الهرم    مدير "تعليم دمياط" يتفقد كنترول التعليم الصناعي نظام الثلاث سنوات "قطاع دمياط"    انتداب المعمل الجنائي لمعاينة حريق شقة سكنية بالحوامدية    7 نصائح للتعامل مع رياح الخماسين لمدة 48 ساعة.. «الأرصاد» تحذر    محافظة القاهرة تشن حملات على شوارع مدينة نصر ومصر الجديدة لرفع الإشغالات    حصري الآن..رابط نتائج الرابع والخامس والسادس الابتدائي الترم الثاني 2024 بالسويس    ليلى عبد المجيد عن فوز القاهرة الإخبارية بجائزة التميز: مصدر مهنى تنقل عنه قنوات دولية    حظك اليوم برج الجدي الخميس 30-5-2024 مهنيا وعاطفيا.. فرصة عمل مناسبة    تعزيز التعاون بين الإيسيسكو ومركز الحضارة الإسلامية بأوزبكستان    أول تعليق ل«حمو بيكا» بعد تعرضه للتنمر بالمصيف    الأكثر مشاهدة على WATCH IT    حظك اليوم برج القوس الخميس 30-5-2024 مهنيا وعاطفيا    في ذكري رحيله .. حسن حسني " تميمة الحظ " لنجوم الكوميديا من الشباب    «زعلان ولو اتكلمت ممكن يحصل مشكلة ».. رد ناري من «كهربا» على عدم مشاركته مع الأهلي    الإفتاء توضح حكم التأخر في توزيع التركة بخلاف رغبة بعض الورثة    تخصيص 65 فدانًا لصالح توسعات جامعة الأقصر بمدينة طيبة    هل يجوز التحري عند دفع الصدقة؟.. عميد كلية الدعوة يوضح    صحة الدقهلية: 7 عمليات بمستشفى المطرية في القافلة الطبية الثالثة    مدير مستشفيات بنى سويف الجامعي: استقبال 60 ألف مريض خلال 4 أشهر    بدء حملة لمكافحة القوارض عقب حصاد المحاصيل الشتوية في شمال سيناء    واجبات العمرة والميقات الزماني والمكاني.. أحكام مهمة يوضحها علي جمعة    غلق كوبري محرم بك جزئيًا في الإسكندرية.. تعرف على التحويلات المرورية    القوات المسلحة تنظم مؤتمر الروماتيزم والمناعة بالمجمع الطبي بالإسكندرية    ما هو اسم الله الأعظم؟.. أسامة قابيل يجيب (فيديو)    رئيس جامعة المنوفية يعلن اعتماد 5 برامج بكلية الهندسة    محافظ شمال سيناء يستقبل مدير بعثة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في مصر (صور)    انعقاد الملتقى الفقهي الخامس بحضور وكيل الأزهر    البابا تواضروس الثاني يستقبل وفدا وزاريا فلسطينيا    هيئة الدواء: تسعيرة الدواء الجبرية تخضع لآليات محددة ويتم تسعير كل صنف بشكل منفرد بناء على طلب الشركة المنتجة    مساعد وزيرة الهجرة يستعرض جهود الوزارة في ملف دعم المصريين بالخارج    شروط ومواعيد التحويلات بين المدارس للعام الدراسى المقبل.. تعرف على الأوراق المطلوبة    الفرق بين التحلل من العمرة والحج.. الإفتاء تشرح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإمام محمد عبده «2»

مع مرور الأيام وتعاقب الأزمان يظل التاريخ يحمل لمصر فكرها وفقهها الوسطى الذى أنارت به الدنيا فكانت مهدا للوسطية من خلال فقهائها الذين حملوا صحيح الدين ونشروا وسطيته, حتى أصبحت مصر مهدا لتلك الوسطية ، ورغم المحاولات التى تتم من قبل جماعات وتيارات لتشويه الفكر الدينى المصرى إلا ان جميعها تبوء بالفشل بفضل فقهاء الوسطية المصريين الذين جعلوا من بلدهم ابية على التشدد والتطرف




كان الشيخ محمد عبده فى مقدمة من تلقوا الرسالة عن «جمال الدين الأفغانى» الذى كان يدعو ويعمل لإيجاد نهضة إسلامية شاملة تنقذ الشرق الإسلامى مما انتابه من حالة الركود والضعف وتحرره من نير الأجانب، وتمكنه من أن يستعيد قوته ولقد كان فى مقدمة تلاميذ الأفغانى و الذى قال عنه الأفغانى عند رحيله من مصر «تركت لكم الشيخ محمد عبده وكفى به فى مصر عالما» فهو الذى حمل اللواء بعده وواصل دعوته وأكمل منهاجه.
غير أن الحقيقة العامة التى يجب أن تقرر أولا هى أنه إذا كانت أهداف الرجلين الكبيرين واحدة فإن الشيخ محمد عبده بعد أن استقل بوضع الخطة لنفسه وذلك بعد أن عركته الأحداث وأنضجته التجارب اتخذ لبلوغ الإصلاح طريقا يختلف عن طريق السيد الأفغانى وهذا النهج هو الذى جعل لمحمد عبده طابعه الخاص وهو الذى به يتحدد مكانه فى تاريخ نهضة الشرق الحديث.
ذلك أن السيد جمال الدين الأفغانى اختار للوصول إلى أهدافه طريق «الثورة السياسية» وكان جهاده أكثره سياسيا عمليا فلم يتفرغ لأبحاث نظرية وإنما أوجد مدرسة من الرجال وبث روحا.. أما الشيخ محمد عبده فإنه رأى أن يتخذ طريقا آخر فبدلا من الثورة السياسية التى يبدو أنه آمن بها أيضا فى عهد شبابه وأشترك فيها إلى حد ما رأى بعد ذلك أن يوجه جهوده إلى الإصلاح الدينى والنهضة الثقافية والاجتماعية.
فقد تبين له أن الثورة السياسية لا تنجح حقا إلا إذا كانت الأمة قد بلغت درجة عالية من الوعى الثقافى وإلا إذا كان فكرها ووجدانها قد بلغا من النضج قدرا يجعلها تدرك المبادئ بوضوح وتؤمن بها وتثبت عليها وتتحمل الأهوال فى سبيلها فمن هنا اختلفت طريقتا أو وسيلتا المصلحين مع أن الغايات واحدة وكان هذا نابعا لاختلاف مزاجى الرجلين الكبيرين.
لكن كان كل من المنهجين خيرا للعالم الإسلامى ومحققا لأهدافه فى التقدم فإذا قيل إن «السيد جمال الدين» قد أحيا الروح فإنه يمكن القول بأن الإمام محمد عبده أحيا أو أيقظ العقل وكان لابد للنهضة الإسلامية الحديثة من وجود العقل والروح معا ليتآزرا ويتعاونا ولا غنى لأحدهما عن الآخر.
هذه هى الفكرة العامة عن منهج الشيخ محمد عبده الذى عرف به فى التاريخ، أما فيما يتعلق بحياته فيكفى أن نذكر أهم الحقائق عنها لكى تكون الصورة واضحة عن شخصية الرجل والظروف التى عاش فيها والتى كون فيها أفكاره وأول هذه الحقائق أن حياته وقعت فى النصف الأول من القرن التاسع عشر حيث ولد قبل منتصف ذلك القرن ثم عاش حتى مطلع القرن العشرين حيث توفى سنة 1905م.
ومن الحقائق فى دور نشأته أنه كان هناك رجلان أو شخصيتان كان لهما أكبر الأثر فى توجيه وتكوين نفسيته هذان هما: السيد درويش خضر أحد أخوال والده ذلك الرجل الصوفى الذى كان على جانب من الثقافة فإنه هو الذى حبب إليه العلم وشجعه على المضى فى التعليم بالأزهر وهداه إلى سلوك الطريق الصوفى.. أما الثانى فهو السيد جمال الدين الأفغانى ذلك الذى أوقد الجذوة المقدسة فى صدر محمد عبده وعرف بنفسه وبين له طريق البحث والنظر وأورثه رسالة الإصلاح وقد قال محمد عبده عن أثر جمال الدين فى تكوينه إن الحياة التى أعطاه إياها والده هى حياة شاركه فيها أخواه اللذان يعملان فى الريف أما الحياة التى أعطاها له السيد جمال الدين الأفغانى فهى حياة جعلته يشارك فيها الأنبياء صلوات الله عليهم وهو يقصد بذلك الحياة الروحية والمستوى الإنسانى السامى الذى يبلغه الإنسان إذا أخلص فى دينه وأهتدى بهدى الأنبياء صوات الله عليهم أجمعين.
وقد تلقى الشيخ محمد عبده تعليمه العام فى الأزهر وتخرج فيه سنة 1877م ثم اشتغل بتدريس التاريخ الإسلامى وفلسفة الاجتماع فى دار العلوم كما عمل بالصحافة واشترك إلى حد ما فى الثورة الوطنية «العرابية» ولما حكم عليه بالنفى بعد انتهائها سافر إلى بيروت ثم استدعاه جمال الدين إلى باريس كما أشرنا حيث تعاونا فى تحرير جريدة «العروة الوثقى» التى كانت حربا على المستعمرين لكنه عاد إلى بيروت فاشتغل ثانية بالعلم وهناك أملى رسالته فى «علم التوحيد» التى جمعها ودونها بعد ذلك فى مصر.
وكانت عودته إلى مصر سنة 1888م حيث بقى بها إلى أن أدركه الأجل سنة 1905م أى بعد سبعة عشر عاما هذه المرحلة الأخيرة من حياته هى التى كانت أكثر خصبا وهى التى شعر فيها بالاستقرار وظهر فيها طابعه وغزر إنتاجه أوضحت رسالته ومنهجه فى الإصلاح.
ففى هذا الدور تولى عدة مناصب فقد تولى مناصب القضاء ثم الإفتاء وعضوية مجلس إدارة الأزهر ومجلس الأوقاف ومجلس شورى القوانين وفى كل هذه المناصب كان يرسم خطة الإصلاح ويعمل لتنفيذها فترك فى كل من هذه الوظائف التى تقلدها أثرا نافعا كما أنه كان فى مقدمة المصلحين الاجتماعيين فدعا إلى تأليف منظمات البر وتأسيس الجمعيات الخيرية وبعض الجمعيات التى تعمل لنشر الثقافة الإسلامية والعربية وإحيائها ونقل الثقافة الحديثة.. وهذا هو مجمل الحقائق فى حياة الشيخ الإمام محمد عبده.
إذا أردنا بعد ذلك أن نحدد مكانته فى تاريخ النهضة الدينية والفكرية فى العالم الإسلامى الحديث إن محمد عبده قد بلغ من مكانته وفضله أنه حطم قيود التقاليد: وحرر العقل من إساره وعمل على التوفيق بين الدين والعقل وبذلك أوجد حركة فلسفية جديدة وفى وقت واحد أعاد للعقل مكانته كما جعل أساس الدين قويا متينا على أنه لم يغفل شأن الوجدان أو العاطفة الدينية ولم يقلل من أثرها فنادى بأن يكون هناك توازن بين الفكر والوجدان وفى كل ذلك كان إماما ومجددا ومن ثم استحق هذا الوصفة ذلك لأن المستوى العلمى فى مختلف أنحاء العالم الإسلامى كان قد انخفض فى خلال القرن الماضى إلى درجة مخيفة فأصبحت كل غاية التعليم دراسة ألفاظ وعبارات إصطلاحية والعكوف على كتب معينة هى موجزات أو ملخصات للعلوم من تأليف المتأخرين فنسيت كتب المتقدمين وأصبح النقل والحفظ هو عمدة التعليم وكاد أن يصير النظر الفردى بالفكر المستقل محرما وكل فكرة جديدة ينظر إليها على أنها بدعة وكل اختراع يحسب على أنه مخالف للإسلام.
وهكذا لو استمر الحال كذلك لوصل الإسلام إلى وضع يكون فيه متخالفا مع المدنية الحديثة ومع نتائج التقدم العلمى والفلسفة العصرية ولاتسعت على مر الزمن مسافة الخلف بين الجانبين.
ولكن الإمام محمد عبده ثم من تبعه من تلاميذه العديدين فى مصر وسوريا كانوا فى مقدمة من أنقذوا الإسلام من مثل هذا الموقف حيث أدركوا روح الإسلام الحقة وفهموا فلسفة وحكمته العالية وعرفوا مزاياه الذاتية وفضائله التى تتجاوز حدود الزمان والمكان ثم عرضوا كل ذلك فى الأسلوب الحديث الذى يفهمه العقل ويؤيده والذى يلائم روح العصر ومن أجل هذا وصف محمد عبده بأنه رائد الفكر الدينى الحديث وبأنه مؤسس المدرسة الحديثة وبأنه مؤسس ومجدد وفيلسوف ومصلح وكل هذه هى أوصاف حق.
لقد كون محمدعبده مدرسة من المفكرين ساروا على نهجه وكان لهم أثر كبير فى تطور الفكر فى مصر وسوريا بخاصة والعالم الإسلامى كله بعامة.
تجلى منهج محمد عبده هذا فى تفسيره أولا هذا التفسير الوافى فى المحكم للقرآن الكريم الذى كتب هو بعضه مباشرة بقلمه.
وبعضه كتبه تلميذه وحامل لوائه بعده السيد محمد رشيد رضا ففى هذا التفسير تتبين عبقرية الإمام محمد عبده وذكاؤه النفاذ وعلمه الغزير بالعلوم القديمة والحديثة وبلغته ومنطقه العذب كما يتجلى منهجه أيضا فى رسالته القيمة «رسالة التوحيد» وهى التى تدرس إلى اليوم فى الأقسام العالمية بكليات ومعاهد مصر والهند وغيرهما والتى يجدر بمعاهد العلم الإسلامية فى كل مكان أن تجعلها عمدة دراساتها لأصول الدين ويتجلى المنهج كذلك فى المقالات الكثيرة التى نشرها الإمام فى الصحف والمجلات والتى أثبتها ونشرها تلميذه النجيب «السيد رشيد رضا» فى الجزء الثانى من التاريخ الكبير الذى ألفه وأسماه تاريخ الإمام محمد عبده.
ولكى تتضح الطبيعة العامة لهذا النهج الجديد نرى أن نقتبس بعض أقوال الإمام محمد عبده نفسه التى اشتملت عليها رسالته فى التوحيد لأنها تبين الدعوة التى عمل جهده لنشرها فمن ذلك قوله جاء القرآن فنهج بالدين منهجا لم يكن عليه ما سبقه من الكتب المقدسة.. وقص علينا من صفات الله ما أذن الله لنا أو ما أوجب علينا أن نعلم لكن لم يطلب التسليم لمجرد أنه جاء بحكايته ولكنه أقام الدعوى وبرهن وحكى مذاهب المخالفين وكر عليها بالحجة وخاطب العقل واستنهض الفكر وعرض نظام الأكوان وما فيها من الإحكام والاتقان على أنظار العقول وطالبها بالإمعان فيها لتصل بذلك إلى اليقين ثم قال وتآخى العقل والدين لأول مرة فى كتاب مقدس على لسان نبى مرسل بتصريح لا يقبل التأويل.
ومما قاله أيضا: أنحى الإسلام على التقليد وحمل عليه حملة لم يردها عنه القدر فبددت فيالقه المتغلبة على النفوس واقتلعت أصوله الراسخة فى المدارك.
ثم قال متحدثا عن الإسلام: صاح بالعقل صيحة أزعجته من سباته وهبت به من نومة طال عليه الغيب فيها.. علا صوت الإسلام على وساوس الطغاة وجهر بأن الإنسان لم يخلق ليقاد بالزمام ولكنه فطر على أن يهتدى بالعلم والأعلام: أعلام الكون ودلائل الحوادث وإنما المعلمون منبهون ومرشدون وإلى طريق البحث هادون، فأطلق بهذا سلطان العقل من كل ما كان قيده وخلص من كل تقليد كان استعبده ورده إلى مملكة يقضى فيها بحكمه وحكمته مع الخضوع فى ذلك لله وحده والوقوف عند شريعته.
وختم قائلا: بهذا وما سبقه تم للإنسان بمقتضى دينه أمران عظيمان طالما حرم منهما وهما: استقلال الإرادة واستقلال الرأى والفكر وبهما كملت إنسانيته واستعد لأن يبلغ من السعادة ما هيأه الله له بحكم الفطرة التى فطر عليها، وليس أبلغ من هذا فى التعبير عن فلسفة الإمام محمد عبده وتوضيح طبيعة الإسلام.
منهجية الإمام محمد عبده
قبل أن نفيض فى ترجمة حياته وما قام فيها من أعمال جليلة يحسن بنا أن نلم ببيئته الأولى لنعرف من أين جاءه هذا النبوغ ومن أين أتاه هذا التكوين الذى دهش له أستاذه «جمال الدين الأفغانى حين قال له وهو طالب أهرى يلبس الزعبوط وقد تحلى بجميل الأخلاق ومحاسن الصفات من العفة والعزة ورعاية الكرامة: قل لى بالله عليك من أى أبناء الملوك أنت؟ يقول ذلك للشيخ محمد عبده المجاور بالأزهر وهو الذى كان «أى الأفغاني» يخاطب الملوك مخاطبة الند للند ويهدد بعضهم فيخافه ويوسط أكبر سلطان مسلم فى عصره ليحول بين السيد وبينه.
بيئته وأهله
قلنا فيما سبق أنه ولد فى قرية «شنرا البحرية» مركز الجعفرية بمديرية الغربية لكن والده «عبده خير الله» كان قد ولد فى «محلة نصر» مركز شبراخيت التابعة لمديرية البحيرة على نحو ما فصلناه ويعرف عن أبيه هذا أنه كان قليل الكلام وقور المظهر لا يختلط بصغار الناس يحترمه أهل بلده ويوقرونه يقرى الضيف ويؤوى الغريب ويكرم النزيل.
كانت هذه الخصال تؤثر فى محمد الصغير ويعتقد أن أباه أعظم رجل فى القرية بل أعظم من فى الدنيا ذلك لأن الحكام كانوا ينزلون فى بيتهم لا فى بيت العمدة «عمدة محلة نصر» على سمعته وثروة صاحبه فتعلم أيضا أن الكرامة وعلو الهمة لا يتعلقان بالثروة والمراكز الرسمى وكان الوالد ذا عزيمة وثبات على الرأى قاسيا على من يعاديه وكما كان والده مهيبا فى القرية كانت والدته ترحم المساكين وتعطف على الضعفاء والمحتاجين.
ظلم الحكام فى تلك الأيام:
كان يكفى للإطاحة بأسرة من الأسر أن يشى بها واش كذاب إذ كان الظلم والاستبداد من مظاهر هذه الأيام وكان ظلما لا يقف عن حد فلا قانون مرعى ولا عدل ينصف المظلوم فقد وشى أحد الحاقدين الحاسدين على أسرة «خير الله» بأن عندهم سلاحا وأنهم وأعوانهم يقفون فى وجه الحكام فأخدوا جميعا وزج بهم فى السجون لا يخرج الواحد منهم إلا ميتا ثم سلب هذا الكاشح بمعونة الحكام له كل ما وصلت إلى يده حتى الأبواب وخشب السقوف فها جر والد المترجم وعمه ومن معهما إلى كنيسة أورين وهى قرية صغيرة تتبع مركز شبراخيت ونزلوا عند الحاج محمد خضر وهو خال والد المترجم ولكنه خشى أن يؤويهم خوفا من الاضطهاد مع أنه عمدة القرية فانتقلوا إلى قرية تتبع مركز «الجعفرية» هى شنرا مركز السنطة حاليا.. ثم استأجروا أرضا وعملوا فيها واشتهر الوالد بالفتوة والبراعة والحنكة فى الصيد بالسلاح.. فأحبه مصطفى المنشاوى وأحمد ومحمد أخواه وكانوا موظفين فى دايرة الخديو إسماعيل بالقرشية مركز الجعفرية غربية وأصبح بينهما صداقة ومحبة.
كما وقع هذا الظلم بأهل قرية «محلة نصر» تسللوا بيتا بيتا ليقيموا بجوار من سبقهم وفى ذلك وعلى ذلك الواشى فجدد الوشاية ورفع الشكوى إلى مدير البحيرة وكان الوالد حينئذ فى شبرا خيت مدعيا أن عبده خير الله أصبح مأوى لمن فروا بأسلحتهم من القرية وكان «عباس الأولى قد أصدر أمرا بتجريد «الأهالى» من السلاح واتهم أيضا مصطفى المنشاوى بإيوائه بعض الهاربين الفارين من الخدمة العسكرية، فخرج الجميع فى السجن، ومازالوا فى السجن حتى أفرج عنهم فى أول ولاية سعيد باشا، فعاد الوالد إلى قريته، فلم يجد مما كان يملكه أسلافه.
أثر الوراثة فى المترجم:
من هذه النبذة الوجيزة عرفنا ما كان عليه والد الشيخ من الشهامة والشجاعة والوقار والسخاء والاحترام من الناس فهل تأثر الشيخ محمد عبده بالوراثة فى اكتساب تلك الصفات الحميدة؟.. أكثر الناس الكلام فى الوراثة وجعلوها أصلا فى التكوين الجسمى والنفسى والخلقى فقالوا: «العِرق يمد لسابع جد»، ويقول أبو حيان التوحيدى فى مسائل الحرف والصناعات والفنون الإسلامية: «والعِرق إذا وشج على شىء من الفضائل أو الرذائل يأتى بالعجائب وأوفى على الغرائب».
لكن بعض الباحثين يرى أن الناس بالغوا فى ذلك، فإننا نرى الوراثة كثيرا ما يختلف أثرها فيتساءل الناس أين أثر الوراثة فى هذا الرجل أو فى هذه المرأة؟ والمشاهد أن الوراثة قد يكون لها أثر وقد يكون لها ولا يظهر لها هذا بالأثر، وإلا فما يقولون فى ابنى آدم عندما هدد أحدهما الآخر بالقتل بل قتله بالفعل أو فى ابن نوح وأبوه من أولى العزم من الرسل يقول له: «يا بنى اركب معنا ولا تكن مع الكافرين».. ويعقوب مع بنيه.. وغير ذلك الكثير بل رأينا دعاوى حديثه إلى قتل الأبرياء وكل من يقف فى وجه اليهود والتغالى فى دعوى أن كل ما على الأرض ومن عليها هما ملك وعبيد لإسرائيل.. إلخ إلخ، فأين كان إذن أثر الوراثة فى هؤلاء وقد علمنا أن الجدود كانوا أنبياء الله الكرام.
وعلى الضد من ذلك قد نرى بيئته غير كريمة، ونرى أبوين أحدهما أو كليهما ليسا مثاليين، ويخرج من بينهما الحق من يلفت النظر بأدبه وخلقه وحسن سعيه وجمال سلوكه وجهاده فى الخير.. فأين أثر الوراثة هنا.
الحق أن الوراثة قد لا تكون كل شىء فى التكوين والسلوك الشخصى ونرى أن الأخلاق المكتسبة بالمعاشرة والقدوة الحسنة وسهر المدربين وشدة ملاحظتهم للطفل ورعايته، قد تؤثر بما لا تؤثر فيه الوراثة واقرأ قول الله تعالى: «فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله».. وقوله صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه.. إلخ».
طلبه للعلم
يدخل الطفل محمد عبده كتاب القرية ليتعلم القراءة والكتابة إلا بعد العاشرة من عمره، ثم حفظ القرآن الكريم للمرة الأولى فى قرية «شِنِّرَا» ثم ثبته حفظا للمرة الثانية، ثم أسلمه لمعهد طنطا، حيث كان أخوه لأمه «الشيخ مجاهد» ويسبقه إليه لتجويد القرآن الكريم، كان ذلك سنة 1279ه.
وفى سنة 1281 ه انتظم فى دورس العلم، فبدأ يدرس النحو فى شرح الشيخ خالد على الأجرومية، فقضى سنة ونصف السنة لا يفهم شيئاً، لأن طريقة التأليف والتعليم كانت عقيمة لا توهل إلى نتيجة مجلس الشيخ الصغير الطالب للعلم وهو خالى الذهن من كل شىء، فيفاجأ بدرس النحو فى كتاب واحد مؤلف من عدة كتب: المتن أولاً، وهو اختصار سريع للقواعد، وعلى المتن يشرح قواعده ويفسر شواهده ويعربها، وعلى الشرح حاشية يستدرك فيها صاحبها على الشرح ثم الهامش يستدرك فيه صاحبه على الحاشية عدة كتب فى كتاب واحد، ومطلوب من الصغير المبتدئ أن يلم بذلك كله فى كل درس، هذا بعد المقدمة التى يفسر فيها الشارح مبادئ النحو، وهى -ككل فيه- عشرة منها: تعريف العلم الذى يدرسه الطالب الصغير وموضوعه وثمرته والحاجة إليه.. إلخ إلخ، ثم يبدأ بدرس ثان وهو إعراب بسم الله الرحمن الرحيم ومتعلق حرف الجر وتقديره، ثم أوجه الإعراب فى (الرحمن الرحيم» وما يجوز منها وما يمتنع ولابد من أن يراد هذا البيت: إن ينصب الرحمن أو يرتفعا فالجر فى الرحيم قطعا منعا.
وبعد ذلك إعراب عنوان الدرس الثالث، وقد يكون كلمة كتاب أو باباً، ولابد من إعراب كلمة باب أو كتاب والأوجه الجائزة فيه.
كل ذلك يتلقاه الطالب المبتدئ فى الدروس الأولى وكأنه يتلقى بلغة أجنبية لا يعرف عنها حرفا واحدا فهل بعد ذلك نعجب؟ إذا كان الطالب يمكث فى طلب العلم عشرين سنة فأكثر ومحصوله من العلم قليل.. ولعل هذه البداية هى التى جعلت الشيخ محمد عبده يثور على طريقة التعليم فى الأزهر حين صار له من الأمر شىء.
أدرك الشيخ اليأس من النجاح وهرب من الجامع الأحمدى عند أخوانه ثلاثة شهر، ثم عثر عليه أخوه وأراد إكراهه على العودة فأبى إلا أن يعود إلى البلد، ليشتغل بالزراعة، وعاد عازما على ألا يعود إلى طلب العلم، وتزوج سنة 1882 ه.
يقول الشيخ محمد عبده خير الله: «فهذا أول أثر وجدته فى نفسى من طريقة التعليم فى طنطا وهى بعينها طريقة الأزهر وهو الأثر الذى يجده خمسة وتسعون فى المائة ممن لا يساعدهم القدر بصحبة من لا يلتزمون هذا السبيل فى التعليم سبيل إلقاء المعلم ما يعرفه وما لا يعرفه بدون أن يراعى المتعلم ودرجة استعداده للفهم، غير أن الأغلب من الطلبة الذين لا يفهمون إلا أنفسهم فيظنون أنهم فهموا شيئا فيستمرون على الطلب إلى أن يبلغوا سن الرجال، ثم يبتلى بهم الناس، وتصاب بهم العامة، فتعظم بهم الرزية لأنهم يزيدون الجاهل جهالة، ويضللون من توجد عنده داعية لاسترشاد، ويؤذون بدعاويهم من يكون على شىء من العلم، ويحولون بينه وبين نصح الناس بعلمه.
وبعد أربعين يوما من زواجه ألزمه أبوه بالعودة إلى طنطا، وبعد امتناع واحتجاج لم يجد مندوحة من الطاعة، فركب فرساً، وصحبه أحد أقاربه ليوصله إلى محطة إيتاى البارود ليركب منها القطار إلى طنطا، وكان يوما قائظا حره شديد والريح عاصفة ملتهبة، فقال محمد عبده لصاحبه: أنا لا استطيع مواصلة السير فى هذه الحرارة، فلنعرج على قرية ننتظر فيها حتى يخف الحر، فأبى فأجرى الفرس وتركه وأعلمه أنه ذاهب إلى (كنيسة أورين) وفيها خئولة أبيه، وقد كان معروفا بالفروسية واللعب بالسلاح، ففر به شباب هذه القرية، ورجوا أن يقيم معهم مدة يلهو كل منهم بالآخر.
أدركه صاحبه وبقى معه إلى العصر، ثم أراده على السفر فأبى وسلمه الفرس على أنه سيسافر إلى طنطا غدا فى الصباح، وقال له: إن شئت فقل إنى سافرت إلى طنطا، وبقى هو فى القرية خمسة عشر يوماً، تحولت فيها حاكمة، واكتسب رغبة غير رغبته الأولى على نحو شرحنا عند حديثنا عن الشيخ درويش خضر الذى استطاع بصلاحه وقوة حجته وحنكة أن يقنع محمد عبده بالعودة إلى دراسة العلم بالجامع الأحمدى وإذا أراد الله أمرا هيأ له أسبابه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.