جمعة الغضب.. جمعة الرحيل.. ثورة الشباب .. شباب يمنحون فتيات قطرات خل تقيهن ويلات "غاز الدموع".. فتاتان تقفان في "البلكونة" تقتطعان من ملاءات سريرهما، قماش تلقيانه ليحتمي به شباب يسعي أسفل بيتهما طالبا للكرامة والحرية.. فتاة مصرية تمشي مع أخري سودانية لم تعرفها إلا لبضع ساعات، تبيت ليل الثورة في بيت جدتها.. في الميدان يفترشون بطاطين رخيصة الثمن، أو ورقًا مقوّي يركنون عليه تعبهم وأملهم في بزوغ نهار جديد، لا يسألون عن أحد .. منْ هذا ومن أين جاء؟.. يتشاركون اللقمة وزجاجة المياه ودخان السجائر، يتشاركون في الألم والحلم.. وهنا يحكي لنا بعض من هؤلاء يومياتهم.. من القاهرة والإسكندرية والسويس.. شباب في بداية طريق الكتابة، شاركوا واعتصموا وتظاهروا طيلة أيام الثورة. لم أكن يوما أتصور أن اعشق مكانا يقبع في قلب القاهرة وأن اشتاق إليه كلما بعدت عنه، مثلما حدث مع ميدان التحرير، هذا الميدان الذي كنت أتحاشي المرور به في الماضي لتجنب الزحام توفيرا للوقت، لكنه أصبح اليوم بالنسبة لي كبيت العائلة الذي لا أستطيع الابتعاد عنه، لم لا وقد عشت فيه أجمل أيام عمري وهي أيام ثورة 25 يناير. داخل الميدان عالم آخر يتميز بجو من الحب والإخاء الذي لم اعتده في بلادي من قبل، تسود فيه حالة جميلة من التوحد بين المصريين، فالمعتصمون في الميدان هم عبارة عن توليفة متنوعة من اتجاهات ثقافية ودينية وفئات عمرية مختلفة .. كل أولئك وهؤلاء لا يجمعهم شيء بخلاف حبهم لبلادهم مصر، وكانوا كأنهم يقدمون نموذجا لمصر، فهذا مهندس مصري يعيش في "أوتاوا" بكندا قد أتي خصيصا لمشاركة بني وطنه في المطالبة بالتغيير، وهذه شابة يبدو عليها مظاهر الثراء تمسك بكيس قمامة وتجمع فضلات الطعام الملقاة حتي يصبح المكان نظيفا، وهذا رجل أعمال مصري يعيش بالنمسا يأتي من مطار القاهرة مباشرة إلي الميدان ليمكث في العراء مع الشباب المطالبين بالحرية، وهذا شاب بسيط نزل من منزله بهدف شراء الجريدة اليومية فوجد التظاهرة المطالبة بالحرية تهز الشارع وتطالب بالتغيير والعدل فدفعه حسه الوطني للانضمام لها بالرغم من عدم اهتمامه بالأمور السياسية من قبل. ومن المشاهدات المؤثرة تلك الفتاة البكماء التي ربما لن يسمعها أو يشعر بها أحد والتي حملت جهازًا لشحن بطاريات الهاتف المحمول ووقفت تعرض علي المعتصمين مساعدتهم، والسيدة العجوز التي تبيع المناديل وتعرض علي استخدام هاتفها المحمول لإجراء أي مكالمة ليطمئن الأهل، وهذا شاب ينبهني إلي موعد صلاة الفجر وعندما أراه جالسا أسأله هل ستصلي لاحقا؟ فيجيبني بأنه مسيحي وأنه خشي أن تفوتني الصلاة، وها هم المسيحيون يقومون بعمل كردون لحماية المسلمين أثناء الصلاة وكذلك فعل المسلمون وأحاطوا بالمسيحيين أثناء إقامة القداس بالميدان، ومن الطريف أن المسلمين كانوا يرددون آمين عندما تبدأ تلاوة الصلاة فينبههم القس برفق أنه لا يجب رفع الصوت أثناء الصلاة وها هو نفس الصديق المسيحي يتدثر ببطانية مع أحد الشباب السلفيين منظر لا أتصور حدوثه لولا أنني رأيته بعيني. كثيرة هي الصفات والمآثر التي يتحلي بها المصريون هكذا قرأنا في الكتب وتعلمنا في المدارس وكنا نعد ذلك ضربا من المبالغة، لكنني في ذلك الميدان رأيت أكثر من ذلك رأيت وطني الذي افتقدته لمدة طويلة رأيت الحب والتعاون يغلفان الحياة والسلوك، رأيت مصر بكل تنوعها وتناقضاتها، رأيت حالة فريدة لأناس ينامون أسفل الدبابات لمنعها من التقدم وعندما هاتفني أحد الأصدقاء المشككين في جدوي الاعتصام أرسلت له صورة لمن ينامون أسفل الدبابات والمدرعات لمنعها من التحرك وكسب مساحة زائدة في الميدان وسألته كيف يمكنك هزيمة شعب لا يخشي الموت؟ وكانت إجابته عملا وليس قولا فقد انضم إلي اعتصامنا في اليوم التالي. إن المرء ليقف منبهرا أمام حالة النظام الدقيق والعمل المتقن العفوي الذي قام به شباب الثورة لدرجة أن ناشطًا سياسيا بريطانيا شهيرًا مثل جون رييز لم يستطع أن يخفي إعجابه بأسلوب التفتيش قبل الدخول للميدان بل وينصح الحكومة البريطانية أن تعتمد أسلوبا مماثلا في المطارات والأماكن الحيوية في بريطانيا..في هذا الميدان كتبت شهادة ميلاد جديدة لوطن عريق أتشرف أن أحمل جنسيته وشعبا عظيما متحضرا أسعد بالانتماء إليه. محمد البلاسى - مترجم