الحكاء الشعبي منشغل علي وجه خاص بالأمن العام، وأفكاره حوله بسيطة للغاية، وفي سيرة الظاهر بيبرس، هو يتصور أن الجريمة تحدث بسبب الحاجة والعجز عن الكسب المشروع، وأنه من الممكن القضاء علي كل عصابات الشارع عندما نؤمن لهم عملا يحصلون منه علي ما يكفيهم. من هنا جاءت السهولة التي عالج بها الظاهر بيبرس مشكلة العصابات في القاهرة عندما كان مسئولا عن الأمن بها، هم يتوبون علي يديه، بعد أن يضمن لهم حياة كريمة. لو أن الحكاء الشعبي يحكي حكايته لعدد من رجال العصابات، أو معتادي الإجرام لاستغرقوا في الضحك علي سذاجته، غير أنه يحكيها لأناس بسطاء يؤمنون أن البشر خيرون بطبيعتهم وأنهم يلجأون للجريمة عندما ترغمهم الحياة علي ذلك، ولذلك فالحكاء الشعبي يحرص علي عدم معارضة منهجهم في التفكير، غير أن ما يذكره من تفاصيل المجرمين والجريمة في مصر يدل علي خبرة حقيقية واطلاع كامل علي تفاصيل نشاطهم. وهذا واضح في المشهد الذي يتعرف فيه بيبرس علي عصابات القاهرة تمهيدا لعملية توبتهم، وإذ بخمسين امرأة لابسين حبرا وراكبات حمير وكل واحدة منهن لها خديم، ففتح لهم عثمان (المساعد الأول لبيبرس، بالأمس قلت لك إن اسمه هو عثمان بن الحلوة، وصحة الاسم، ابن الحبلة) قاعة وأجلسهم فيها، وإذا بفرقة ثانية نحو سبعين امرأة بالأزر البيض فأدخلهن مكانا آخر، بعد ذلك أقبلت طائفة فتيان، ثم طائفة أطفال صغار وبعدهم طائفة رجال، وبعدهم نساء عجائز وبعدهم شيوخ بعمائم) ويبدأ الحكاء في وصف نشاط كل فئة، هؤلاء النساء هن بقر الوحش، لهن بيوت في الحارات، تطلع الواحدة منهن، تحط عينها علي الرجل الذي تراه مليان بالمال والملابس، فتسايره حتي يروح معها إلي بيتها وتسقيه الخمر حتي يغيب فيطلع خديمها ويضع علي فمه مخدة ويقعد عليه حتي تخمد أنفاسه وبعدها يواروه بحفرة في بيتها. الحكاء هنا يصف جريمة ليس لها صلة ببطل السيرة أو بعصره، كانت هناك بالفعل في بداية القرن العشرين وقبل جرائم ريا وسكينة بعشرين عاما علي الأقل، عصابة من النساء تحمل نفس الاسم تكلم عنها الأستاذ الكيلاني في كتابه البديع الصغير " في ربوع الأزبكية" كانت تصطاد ضحاياها من الافندية في ميدان الأوبرا القديمة بعد خروجهم من البارات والملاهي اليلية. الحكاء هنا يعطي لحكاياته لمسة مصداقية قوية، ونواصل عملية التعرف علي بقية العصابات (وهؤلاء هم البقر السارح، أرباب الملايا، تسرح الواحدة منهن حتي يقع بها واحد منحوس يدخلها بيته فتشرب معه الخمر وتضع له مع الخمر أفيون، حتي لا يعود يعي، فتأخذ كل ما قدرت عليه وتطلع وتتركه مرميا، وهؤلاء مرتديات الأزر البيض، فهن بقر الحليب، يخرجن أيام الأعياد وينحشرن في الازدحام ويأخذن ما في جيوب الناس ويمررن علي التجار في صورة مشترين، البعض يقلّب والبعض يساوم حتي يجدوا فرصة ويسرقوا ما قدروا عليه.. ثم الفتيان المرد، علوق وحرامية،ثم أولاد صغار وهم أولاد الكار، يعني ابن الكار يأخذ واحدا من هؤلاء الأولاد ويمشي في الطريق حتي ينظر من في جيبه صرّة فيضرب الولد كفا فيجري الولد ويدخل في حضن الرجل ويقول أنا في عرضك يا عم فيشفع به ويخلصه من الرجل وتكون فلوسه قد طارت. ثم النساء العجائز، وهن يدخلن البيوت في صفة مشيخة وهن يسرقن مع اعتقاد النساء فيهن أنهن من أهل الفضل والبركات ما هي صلة ذلك كله بسيرة الظاهر بيبرس؟ لا شيء.. لقد استغلها الحكاء السيرة ببراعة ليقوم بدوره التنويري أمام جمهوره.