آه من شطك الجميل.. يا تبر سايل بين شطين. هذا هو انت ايها النهر العظيم.. يا من تمنيت ان أحكي لكل سائح يأتي الي مصر قاصدا شاطئك الظليل، ومياهك العذبة.. يقف علي حافة النهر ممسكا بعدسته، يسجل اعجاز الخالق عز وجل، يسجل وجه مصري سواه فيض الشمس، فاكتسي وجهه بسمرة العرق والكفاح، وهو يعانق صفحة النيل الذهبية. أنا وحبيبي يا نيل تمنيت أن أحكي لهم جميعا حكايتك في حياة هذا الشعب.. ولن أستعير حكايتك من مراجع التاريخ، وخرائط الجغرافيا، فهي قدر ما تهمني، إلا أنني سأنحيها جانبا لسببين؛ الأول أن السائح الذي يأتي الي مصر هو بالضرورة سائح مثقف، جاء يتطلع الي حضارة أمة وعلي أصالة شعب، وهو لذلك غني عن حقائق وأرقام ومعلومات، تأتي علي عجالة، لأن لديه تفاصيلها وشروحها. ثاني الأسباب التي تجعلني أتجنب حديث المعلومات وكتب التاريخ، هو اعتقادي وايماني، بأن هذا الشعب الذي يحيا علي ضفافك يا طيب الأوصاف والمحيا، كان دوما هو صانع التاريخ.. ولم يصنعه التاريخ. ولن نتناقش في القضية الجدلية: مصر هبة النيل، أم مصر هبة المصريين؛ لأننا في حالة عناق دائم معك أيها الفيض الالهي، ولن يضيرنا أن نكون منك، ولكن يهمنا أن نكون أبناءك الأوفياء. تمنيت أن أحكي لكل "خواجة" احتضنته في رحلة داخل قارب صغير أو مركب سياحي أنيق، أو لشاب يصطحب حبيبته ويطلعك علي سره،ويتطلع الي مستقبل باسم، أو شيخ عجوز مد سنارته البدائية طلبا للرزق من خيرات أعماقك؛ فلم تبخل عليه باكرا أو قبيل غروب الشمس. تمنيت أن أحكي عن عطائك للانسانية، ربما منذ مولدك نحو ستة ملايين عام، عندما كنت نهرا قديما "برينيل" كما أطلق عليك العلماء ملحوظة: نزل الانسان علي ضفاف النهر منذ مئات الآلاف من السنين، وربما بدأ عطائك علي أدني تقدير منذ عشرة آلاف سنة، عندما حصلت علي لقب النهر الحديث "نيو نيل"، وكنت دوما تمثل الحياة المتجددة لمصر والمصريين. كنت أنت الراوي لأرضنا بديلا عن مياه الأمطار.. كما لاحظ ذلك أروسطوفانس الاغريقي. لم تقصر عطاءك علي طبقة من الطبقات، فلم تمنع فقيرا..ولم تضاعف لغني. الصياد العجوز في جلبابه الفقير، ذات الستارة البدائية (من خوص الحقول الجافة)، مثل الثري الذي يرتدي البدلة الرياضية ويمسك بأحدث آلات الصيد باهظة الثمن.. كلاهما حصل علي "سمكة". مركب الصيد بالشباك التي أرهقها كثرة الرفء مثل اليخت الحديث المجهز. أغنياء أعطاهم الله الملايين، يعيشون بالقرب منك، ليطلوا علي صفحتك للحظات صباحا ومثلها مساء، مثل فقراء أعطاهم الله الستر ونعمة الحياة، متلامسين مع مياهك المباركة، يعيشون داخل تجويف شجرة علي حافة شاطئك. شباب يعيشون علي بيع أكواب الشاي المغلية للعشاق البسطاء، تحتضنهم برفق ويتكسبون من عشاقك. مراكب شراعية بسيطة يتقاضون القروش القليلة، نظير نزهة لمشتاق، وفسحة للعشاق، مثل أفخم المراكب السياحية التي تقدم الكافيار والكافيه أوليه ! رويت زهرة في حقل فلاح يزرع السبانخ والكرنب، وسقيت وردة في بستان مشتل يزرع الجمال علي حافتي شاطئيك. لم أتعجب يا نهر الخير من احصائية حديثة تقدر عدد الكتب والمقالات التي كتبت عنك بعشرين ألف مقال وكتاب.. ومعظمها من أدب الرحلات. أليس أنت من توحد المصريين تحت رايتك؟ ألست أنت من حملت بأيقاعك المنتظم.. الخير.. كل الخير لمصر.. الأرض والبشر. سلام الله عليك يا " تبر سايل بين شطين ".