كثيرا ما سمعت عن قرى الانبياء بالفيوم لذلك قررت أن أقوم برحلة إلى هناك استقلت سيارة من مدينة الفيوم فى تمام الساعة التاسعة صباحا لتقطع بنا مسافة 130 كيلو مترا طوت خلالها مناطق بحيرتى قارون والريان وصحراء وادى الحيتان لتستقر فى قلب الصحراء عند قرى سيدنا موسى وسيدنا الخضر وهما اسمان أطلقا على قريتين من قرى المنتفعين الذين اضيروا من قانون العلاقة بين المالك والمستأجر وجاءت تسميتهما تبركا بنبى الله موسى والرجل الصالح الخضر. أغلب قاطنى القريتين «نازحون» من محافظات الصعيد الذين اتت بهم الحكومات السابقة بعد أن ضاقت بهم سبل العيش فى محافظتهم لينالوا قسطا من الاهتمام إلا أنهم وجدوا أنفسهم فى وضع لايرقى ببنى الإنسان.
شباب الخريجين الذين يقطنون القرية رقم واحد والتى أطلق عليها اسم « جهنم» من فرط حالة البؤس الذى يعيشه ابناؤها داخل بقعة تابعة لجمهورية مصر العربية بالقرب من الحدود الليبية.. فالمنازل هناك مكونة من طابق واحد لايزيد ارتفاعها على المترين وكأنها مقابر شيدت لاستقبال الموتى وكلما وصلنا إلى قرية من القرى الثلاثة وجدناها خاوية على عروشها وما هى إلا دقائق ويخرج علينا ساكنو هذه القبور كملح الأرض حالهم لايفرق كثيرا عن الحياة قبل ألف عام.
جولة «روز اليوسف» فى القرى الثلاث رصدت حال ابنائها.
المهندس يونس على جمعة رئيس الجمعية الزراعية دليلنا فى هذه الرحلة وتعتبر الجمعية الزراعية لمن لايعرفها هى الممثل الوحيد للدولة فى هذه المنطقة.
أشار الى سيدة تقود عربة كارو محملة بالجراكن وقال يونس: هذا هو حال قرى الأنبياء، مياه الشرب عبارة عن خليط من مياه الصرف الزراعى المقبل من الوادى المختلط بجميع الملوثات التى لا يمكن ان يتصورها العقل وكل ما فعلته الدولة هو إنشاء محطة تحلية «نقالي» تعمل على تنقية المياه بالترسيب من الرمال والزلط وتعمل يوما وتتعطل ألف يوم فلم نجد أمامنا الا ان نستخدم مياه المصرف لحياتنا اليومية ونشترى جركن مياه الشرب بجنيهين من التجار الذين يجلبونها بواسطة «التورسيكل» من مدينة إهناسيا التابعة لمحافظة بنى سويف لكونها الأقرب إلينا فهى لاتبعد عنا سوى 40 كيلو مترا
وفجأة وبدون مقدمات يضحك الدليل بشكل استوقفنا وسألناه عن اسباب ضحكته الهستيرية فقال العقارب والافاعى اصبحت من أصدقائنا المقربين لكن لمن يحاول ان يعاديهم سيكون مصيره الموت المحتوم فمن يلدغه «ثعبان» أو «عقرب» لن يجد من يسعفة لكون أقرب وحدة صحية مجهزة على بعد 80 كيلو مترا أما الموتى فمصيرهم سيارة ربع نقل وكومة من القش يتم حمله عليها حتى يصل إلى محافظته لدفنه فلا مقابر بهذه القرى ولا طبيب يمنح تصريحا بالدفن.
أما الليل والكلام للحاج يونس فيبدأ الحادية عشرة صباحا بعد ان تنقطع بنا السبل للتواصل مع العالم الخارجى فلا وسيلة مواصلات بعد هذا الوقت ولا قبل الثامنة صباحا والكهرباء حكايتها حكاية حيث يقوم على ادارة مرفق الكهرباء الجمعية الزراعية مقابل مبلغ 100 جنيه شهريا إتاواة تدفعها كل أسرة» إلى جانب «وابور النور» وهو اللقب الذى اطلقه أبناء القرية على المحول إلى جانب تحمل مصروفات الصيانة والزيت والسولار ..
ويضيف يونس أنه يتم إضاءة القرية من السادسة مساء وحتى الحادية عشرة أما الشوارع فظلام دامس تعوّد عليه سكان هذه القرى لتعطل (وابور النور) معظم أيام السنة أو بسبب أزمة السولار التى تعانى منها المحافظة منذ فترة ليست قصيرة حيث نشترى احتياجاتنا من السولار ب 45 جنيها ل«الصفيحة» من السوق السوداء.
وعلى بعد أمتار شاهدنا سيدة تطلق صرخاتها وهى تحمل بين يديها رغيفين من الخبز لايصلحان للاستخدام الآدمى فينظر إلينا الحاج يونس ويقول دليلنا فى الرحلة: رغيف الخبز من الأشياء النادرة هنا فلا يوجد بالمنطقة مخبز رغم أننا قمنا بتجهيز مكان مناسب بكامل أدواته ومعداته بالجهود الذاتية وللأسف رفضت مديرية التموين منحنا الترخيص .. مما يضطرنا إلى شراء الخبز من مدينة إهناسيا ويصل سعر الرغيف المدعم 25 قرشا أو نشترى الدقيق من السوق السوداء من بنى سويف ب 100 جنيه للجوال الذى يصل سعره إلى 16 جنيها لكى نصنع منه خبزا بدائيا على النار مباشرة ولا نعرف عن التموين أى معلومات لابطاقة تموينية ولا سلع مدعمة حتى اسطوانات البوتاجاز لا يعرفها إلا القليل الذين اشتروا بوتاجاز مسطح يدفعون 50 جنيها سعر الاسطوانة من السوق السوداء التى تأتى مهربة من محافظة بنى سويف وبعض قرى يوسف الصديق.
أثناء تجولنا فى القرية توقفنا أمام شاب فى مقتبل العمر وسألنا عم يونس هل هذا الشاب نال أى قسط من التعليم أم مجرد أمى يبحث عن فرصة عمل فقال قرية سيدنا موسى لا تعرف من التعليم سوى مدرسة صديقة للفتيات المتسربات من التعليم وبالطبع كل بنات القرية متسربات أما قرية سيدنا الخضر بها مدرسة للتعليم الأساسى تركها الاطفال بعد أن حولها مدرسوها إلى عمال نظافة للفصول وسعاة لاعداد الشاى والقهوى حيث يستعلى المدرسون على التلاميذ فى ظل عدم وجود رقابة من مسئولى التربية والتعليم فالمسافة بين الادارة التعليمية بمركز يوسف الصديق وقرى الأنبياء حوالى 50 كيلو مترا ولا توجد لها وسيلة مواصلات.
مع انتهاء الرحلة سيطر علينا الاحباط من هول ما رصدناه من مآس ومعاناة ترتسم على مواطنين يحملون هوايات مدون بها أنهم تابعون لجمهورية مصر العربية وليست جزر القمر.
هؤلاء المساكين نسيتهم أجهزة الدولة وتاه عنهم أعضاء مجلسى الشعب والشورى ولم يتذكرهم سوى البوم والغربان الذى يحلق فوق رءوسهم ليل نهار وفى نهاية الرحلة ودعنا عم يونس ومعه الغلابة الذين تجمعوا لعرض معاناتهم والأمل يراودهم أن تصل إلى متخذى القرار.