ذهبت بعثتنا إلي أوليمبياد ريو دي جانيرو بمجموعة حقائق ثم عادت إلي القاهرة بمجموعة حرائق.. وما بين الحقائق والحرائق دخلت علي الخط قوافل من الميليشيات والكتائب والمرتزقة وأيضا من أصحاب النوايا البريئة تتحدث عن أشياء لم تعشها ولم تعايشها ولم ترها ولم تلمسها. من الأسبوع الأول للدورة الأوليمبية بدأت محاولات اشعال الحرائق حتي قبل ان تتضح الصورة وقبل ان يبدأ معظم أبطالنا المنافسات بل وقبل ان نتعرف علي مصير الحقائق التي سافرنا بها علي أرض الواقع هناك في البرازيل. الآن يقف طرفان علي جانبي حدود الحقيقة.. فريق جعل من البعثة شيطانا رجيما وجب حرقه.. وفريق يحاول أن يصد الهجوم ويصل إلي الدولة الرياضية العميقة والناس البسطاء الذين يهرولون دائما وراء الصوت العالي لعل وعسي تصلهم رسالة عاقلة رشيدة لاتعتبر البعثة شيطانا عاد مفلسا ومفضوحا من ريو دي جانيرو ولا ملاكا عاد بكل الطموحات وبكل خزائن الذهب والفضة. ولأنني واحد من الذين عاشوا وعايشوا البعثة من اليوم الأول إلي اليوم الأخير أمنح نفسي حق تقديم صورة واقعية قدر المستطاع بما يمليه عليّ ضميري المهني علاوة علي ما تيسر من كواليس مسموح بنشرها. نصف الطموح (1): لم تحقق البعثة حتي نصف طموحها.. كان الحد الأدني من الآمال 4 ميداليات متنوعة والحد الأقصي 8 ميداليات.. إذن نسبة النجاح أقل من 50٪.. وهذا التواضع في النتيجة "3 ميداليات برونزية" حسابيا وعمليا ومنطقيا لا يبيح لإنسان طبيعي أن ينعت الحصاد بالفشل المطلق ويزيد عليه أوصافا اضافية الذريع والشنيع.. ولا يبيح في المقابل ان يرفض الطرف الآخر أوصافا أقل من النجاح.. فلم يكن هناك نجاح ولم يكن هناك فشل. (2) : إذا كان تحقيق 3 ميداليات برونزية فشلا ونكسة فإن علينا أن نبحث بأثر رجعي عن أوصاف مناسبة لبعثات في دورات مسابقة كانت تعتبر السفر إلي الأوليمبياد شرف.. وان نبحث كذلك عن الفرق والرياضيين الذين فشلوا في التأهل أصلا لنشنقهم في ميدان التحرير. أعداء معتمدون (3) : لا يجب أن نتحرج أو نتردد في الاعتراف بان الغالبية الساحقة من المهاجمين والضاغطين بعنف علي البعثة والنتائج خصوم وأعداء رسميون معتمدون لقيادات الرياضة الحاليين سواء كانوا وزراء سابقين أو رؤساء مؤسسات رياضية أو وكلاء لهم أغراض ومصالح متوافقة الآن مع الحملة الملتهبة ويعتبرونها فرصة لا تعوض لتصفية الحسابات بصرف النظر عن مطالبة العاقلين بنظرة موضوعية واقعية لتحديد أسباب هبوط نسبة النجاح إلي هذه الدرجة. (4) : لا توجد اتهامات واضحة ومحددة المعالم عن وقائع أو أحداث أو مخالفات مؤثرة مباشرة في النتائج.. يوجد فقط كلام "مرسل" وعام وعنيف مدعم بأكاذيب وأحيانا تضليل.. مثلا ركزوا علي سفر لجنة مجلس الشعب وقالوا انها مسافرة علي نفقة الدولة لكي تراقب الدولة بما فيه من إهدار للمال العام.. وفي حقيقة الأمر هي سافرت بقرار من البرلمان وليس الدولة.. بصرف النظر عن قيمة ومردود سفرها وحتي استغرابي لوصولها هناك وسؤالي الدائم عما يمكن ان ترصده وهي لا تعرف كل شيء عن رياضيين وفرق كانوا يستعدون خلال أربع سنوات.. وما يمكن ان تفهمه عندما لا يرفع رباع الاثقال كما يجب أو عندما يخرج بطل عالمي كبير من الدور الأول مثل عزمي محيلبة.. لكن علي الأقل تحركت معنا اللجنة وعرفت انها ليست فسحة ولا إقامة في فنادق 5 نجوم. زوابع وبراكين (5) : كان الإعلام والصحافة نقطة ضعف البعثة.. وهو موضوع شائك وحساس لكنه جوهر المشكلة ومصدر الزوابع والبراكين التي انفجرت في وجهها والناقل الرسمي لموجات الهجوم عليها من الخصوم والأعداء التقليديين.. وتتوفر تفاصيل كثيرة يصعب تناولها رغم ان رصدها يفك الكثير من ألغاز العنف الذي تعرضت له البعثة وجعلتها شديدة الحساسية لكل كلمة صغيرة من مصدر صغير أو كبير.. وأكتفي بإقرار حقيقة أن الوفد الإعلامي لأسباب كثيرة كان خطأ في تركيبته وأطلق العنان لحرب شرسة علي إدارة البعثة واللجنة الأوليمبية. (6) : لا يملك المهاجمون والمنتقدون حتي الآن دلائل واضحة تشير إلي اهمال في إعداد اللاعبين والفرق ولم يتم تسجيل حالة شكوي واحدة من الإعداد ولم يتحدث أي لاعب عن تقصير في تجهيزه فكانت الكرة في نهاية الأمر في ملعب اللاعبين والفرق وعليهم اللعب فقط وتسجيل الأهداف والطموحات. ترشيح بلا ضمانات (7) : لم يتدخل المهندس خالد عبدالعزيز وزير الشباب والرياضة من بعيد أو قريب في تشكيل إدانة البعثة وإعلامها وترك ذلك للجنة الأوليمبية التي اجتهدت في الاختيار.. وكان الوزير ميدانيا لا يكتفي بالمتابعة من بعيد.. حفظ خريطة كل لاعب وسيرته الذاتية ورقمه المؤهل ولم يرفض أي طلب لدعم مالي أو معنوي ولم يترك مباراة إلا وحضرها وعندما تحدث قبل الدورة عن الطموحات كان يبني طموحاته علي أرقام ونتائج عالمية حققها أبطالنا.. وشدد أكثر من مرة علي انه يرشح ولا يقدم ضمانات بميداليات لان المنافسة في المعترك الأوليمبي لها طبائعها الخاصة ليس مع المصريين فقط بل مع كل أبطال العالم.. ورأينا كيف تحققت نتائج غير متوقعة لنجوم كبار فاجأونا بخروجهم. (8) : الضغط والملاحقة المتواصلين من القاهرة عندما تأخرت الميداليات وضع البعثة في بؤرة التوتر.. ولذلك لم يقدم الأبطال تبريرات لاخفاقهم خاصة عزمي محيلبة الذي كان يلعب علي ميدالية مضمونة ووجد نفسه خارجا من الدور الأول وبفارق نقطة واحدة عن المتأهلين للدور النهائي واخطأ 3 مرات من بين 25 مرة وهي نتيجة لم يتعرض لها في كل مسيرته الدولية.. وظل ربع ساعة واقفا أمامي وأنا اسأله كيف خرجت وأنت أفضل من هؤلاء المنافسين وسبق ان هزمتهم في بطولات عالمية.. كان رده الدائم "مش عارف ايه اللي حصل".. وهو ما ينطبق علي باقي المرشحين الذين لم يجدوا مبررات واضحة لعدم تحقيق أحلامهم.. ورغم ذلك خرج كل هؤلاء اللاعبين من دائرة الاتهام التي دخلتها إدارة البعثة وحدها. اختلال التوازن الانفعالي (9) : ثقافة الهواية في عصر الاحتراف مازالت واحدة من العيوب المؤثرة في نتائجنا في ريو دي جانيرو.. هذه حقيقة رغم ان أبطالنا خاضوا تجارب جادة في بطولات عالمية وقارية.. وقفزت هذه السلبية فجأة في وجه البعثة ولم تكن مستعدة لها، وربما تمثل واحدة من أوجه القصور في تجهيز اللاعبين نفسيا وشخصيا لمنافسات تحكمها قواعد الاحتراف والطموح.. وسبق ان أشرنا إلي ذلك من خلال رصد الكثير من النتائج التي تأثرت باختلال الاتزان الانفعالي علي المستوي الفردي وأداء الفرق.. فلم يعرف اللاعب كيف يعود إلي اتزانه عندما يهتز خلال المباراة الواحدة.. ولا كيف يحافظ علي تفوقه عندما يغير خصمه الأسلوب.. وكانت سارة سمير صاحبة برونزية الأثقال هي الوحيدة التي امتلكت الاتزان الانفعالي والثبات النفسي ولم تخطئ مرة واحدة في "6" رفعات. (10) : من الحقائق الايجابية البارزة ان 18 لاعبا مصريا حصلوا علي شهادات تميز لوصولهم إلي الأدوار النهائية ضمن أفضل 8 أبطال.. وهذا في حد ذاته يمثل سبقا كبيرا ويبشر بآمال عريضة في أوليمبياد طوكيو القادمة.. لكن ضاع هذا التميز وسط أمواج الغضب. حكاية إيهاب (11) : حكاية إيهاب عبدالرحمن واتحاد القوي تحتاج إلي وقفة جادة تخرج عن نطاق إهدار الحقائق في خضم الحرائق.. ومبدئيا لم يكن شيئا مضمونا من واقع ما حدث حتي نقول اننا فقدنا ميدالية بغيابه حتي الأرقام التي تم تسجيلها ربما لم تكن كافية بالنسبة له ليضمن ميدالية.. والحكاية الأهم أن ثقافة اللاعب المصري أحد عيوبه القاتلة.. ولو اكتفي إيهاب بكونه لاعبا وجب عليه التركيز فقط علي نفسه وأدائه واستعداده لما وصل به الحال إلي خطأ تناول المنشطات سواء عن قصد أو دون قصد.. ترك اللاعب نفسه مادة للصراع بين رئيس الاتحاد واللجنة الأوليمبية وتدخل طرفا في الخناقة.. ولم يكن مطلوبا من الدولة ان تحمي خطأ ارتكبه يمثل في نظر المجتمع الرياضي الدولي جريمة عصفت بالرياضة الروسية.. لم يكن لائقا ان يسأل الإعلام لماذا لم نوفر الحماية للاعب ونساعده في ألا يكتشف أحد أمره وكأنه يريد رعاية الخطأ الجسيم.. وإذا كان اتحاد القوي قد عزل نفسه ورفض ان يشاركه أحد مهمة تجهيز بطل لانجاز كبير ومنح نفسه كل "الافضال" علي اللاعب فلماذا عند الخطأ يريد أن يتخلي عن كل ذلك ويوزع الاتهامات علي الجميع.. هذه واحدة من مظاهر الأزمة في عقلية الرياضي المصري والغرام بنظريات المؤامرة. أغنية الإهدار (12) : الكلام عن إهدار المال العام أغنية قديمة متجددة تذاع حسب الطلب والاحتياج في أي معركة.. والجميع يعرفون ويفهمون ان إعداد اللاعبين للأوليمبياد يأتي تلقائيا من اعدادهم لجدول بطولات طويل علي مدار "4" سنوات علي كل الأصعدة العالمية والقارية وانفاق 140 مليون جنيه علي هذا الحجم من اللاعبين في أكبر مشاركة مصرية في الأوليمبياد لا يمثل شيئا إذا حولنا الجنيهات إلي دولارات.. لكنها أغنية يغنيها الغاضبون ذاتيا بدون تفكير في كل مناسبة لا تروق لهم.