نعم الحرية للفنان هى البوابة التى ينطلق منها لكى يحلق فى آفاق الخيال والابتكار.. لأن الفن لا يعنى نقل الواقع فوتوغرافيا كما هو مثل صور البطاقة الشخصية والباسبور.. لكن الفن يعيد صياغة الواقع ويحاكيه والفنان يمارس حريته فيما يبدعه.. لكن سألنا أنفسنا: من هو الفنان.. ومن هو المبدع الذى يستحق هذا الحرية ويتحمل مسئوليتها أمام ضميره وأمام الجمهور قبل أن تحاسبه نقابة أو يحبسه قانون. فماذا لو خرج الأديب عن قواعد اللغة.. وداسها تحت سنابك ما يكتبه؟ وماذا لو خاض الفنان فى المقدَّس.. واعتبر نفسه فوق كل المقدسات مع أن الدين يقول له بكل بساطة: خذ حريتك كما تريد ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. فلماذا نمنحه حرية بلا حدود.. ثم يأتى الناقد أو المحلل لكى ينتقد ما يخطه الكاتب وما يقدمه الفنان بدون أن يكون له الحق فى الربط بين ما يقدمه وبين توجهاته السياسية والفنية بل والأخلاقية.ألا يتعارض هذا مع من يفخر بأن الفن رسالة، فهل هناك رسالة غير أخلاقية.. خاصة إذا كان من حقه أن يصور لنا الشر لكى نكتشف الخير وأن يقدم الانحلال لكى نعتصم بالحلال.. وأن يخوض فى الممنوع لنقترب أكثر من المشروع بهذا التوازن تمر أساليب الفنان فى مجتمع له خصائصه وطبيعته.. وقدم الدكتور نصر حامد أبو زيد مستويات الحرية.. فهى فى الرقص تعنى تحرر الجسد.. وفى الموسيقى كسر الرتابة.. وفى الفن التشكيلى فإنها التحرر من قيود المادة.. وفى الشعر والأدب من قيود اللغة المتداولة. والفنان بمهارته يستطيع أن يقول كل شىء مهما كان حصاره.. وعلى سبيل المثال واجه صناع السينما فى إيران قيودا فوق الوصف.. وهم ينتجون 100 فيلم فى السنة إلى جانب نفس العدد أو يزيد من المسلسلات المتنوعة فى كافة الاتجاهات وبالإيحاء والأساليب الفنية.. بلغوا جائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبى.. وهى أرقى جائزة فى العالم.. وهناك من يصنعون السينما أمثالنا ومن أوائل الدول فى العالم.. وقد تعرينا أكثر من اللازم ولم نحصل على «كوز ذرة».. أقول هذا لأن السينما الإيرانية يقدمونها بكامل الاحتشام ولا قبلات ولا غرف نوم.. وتجاوزوا كل هذا وقدموا حالات الخيانة والعشق والجرائم بأسلوب ارتكز أكثر على إنسانية الفعل.. وبذلك وصلوا إلى العالمية، لأن المشاعر الإنسانية لا تختلف عند العربى أو الأمريكى أو الصينى أو الهندى.. كلهم يخاف ويحب ويكره ويتألم ويأمل.. وكلمة إبداع معناها الابتكار من خلال رؤية جديدة.. فهذا الشارع أنت تمشى فيه منذ سنوات وعينك تراه من زاوية بعينها.. فإذا جاء المخرج السينمائى يصوره، أخذ الكاميرا إلى أعلى.. ثم اختار لها زوايا عديدة تجعلك ترى نفس الشارع وكأنك تمشى فيه لأول مرة. فهل تذكر مثلا أحداث فيلم «شباب امرأة» للمبدع الكبير صلاح أبو سيف.. بالتأكيد تذكره جيدًا.. وكيف ربط بين البغل الذى يدور فى ساقية الطحن للحبوب.. وبين دوران الشاب الريفى فى فلك المرأة القاهرية ذات الفوران الجنسى ومعاناتها من الوحدة ولها تجاربها فى هذا الطريق.. واختصرت لقطات البغل مغمض العينين.. الكثير مما يقال عن الذى تسوقه غرائزه بلا مقاومة منه كأنه هو الآخر مغمض العينين لكن بإرادته بينما البغل المسكين مجبر على ذلك. فهل حرية المبدع هى الفوضى والانفلات والجرأة على ثوابت المجتمع؟ فى ذلك يقول د. أسامة أبو طالب: الإبداع فى أشد الحالات الفنية المتطرفة مقيد بقوانين التلقى فى المجتمع، حيث يفترض أن الفنان قدوة فى مجتمعه فإذا استخدم حريته فى هدم الثوابت فى نفوس جمهوره.. فإنه ينحدر إلى الضياع هو وفنه والمتلقى أيضًا. وهنا يسأل الشاعر الكبير والإعلامى زينهم البدوى: هل من الإبداع التطاول على الذات الإلهية والأنبياء عليهم الصلوات والسلام؟ أو الانحلال الأخلاقى والشذوذ وخدش الحياء؟ ولأن حرية الإبداع أصبحت مطية لكل جاهل وباحث عن الشهرة ولو من خلال فضيحة أو فعل فاضح.. إن التى قدمت لها فيديو وهى ترقص شبه عارية وتلوح بملابسها الداخلية.. تقول إنها مبدعة.. ورأينا بعض فتيات تونس وقد كشفن صدورهن بحجة لفت الأنظار إلى المزيد من حرية المرأة. ورأينا من تطاول على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم يدافع عن فعلته مطالبًا بالحرية كاملة غير منقوصة حتى جاء من قدم الأعضاء الجنسية بأسماء فاحشة يعف اللسان والقلم عن ذكرها حتى فى شارع أو دورة مياه عمومية، ثم يقول بأن جريمته تلك هى من صميم الإبداع.. ووجدنا من يقول لنا لا تحاسبونه على هذا الذى يقوله ولا يستطيعون هم أيضًا ذكره على الملأ.. إن هذا حقه ولا يجب أن تنظر إلى العمل الفنى والأدبى ونتوقف عند وصف أو لفظ مهما كانت بشاعته وانحطاطه ولا نحاسب سيدنا الكاتب إلا على مجمل العمل.. ثم يقارن هذا بما جاء فى تراث قديم أو حتى فى حديث نبوى شريف كما ادعى البعض.. فهل رأيتم تبجحًا أشد من هذا؟ خلاصة الحكاية إذا كان من تاجروا بالدين فشلوا فى مسعاهم لإعادة البلاد إلى نقطة الصفر وهم من يعرفون جيدًا كيف يشيعون الفوضى والخراب فإن دعاة الحرية بلا ضابط أو رابط وتجار الفن الهابط بأموال المخدرات والسلاح والدعارة وتجارة الآثار المنهوبة.. يحاولون فى الوقت الحالى لعب نفس دور الفوضوى من زاوية أخرى لنفس الهدف.