أخطر ما فى التطرف الإرهابى الحالى والذى تعانى منه أغلب الدول العربية.. هو استحضار الماضى بشراسة وعنف واستخدامه فى تشويه الحاضر وهدم المستقبل، وذلك من خلال رفع شعارات الحاكمية وتكفير المجتمعات والحكام والجيوش واستخدام العنف المسلح والتفجيرات فى فرض وجهة النظر الأحادية.. التى تتجاهل الزمان والمكان وحقائق الواقع.إنهم التتار الجدد.. وخوارج العصر المتعصبين لأفكارهم الذين يرون شرار قومهم خير من خيار القوم الآخرين.. هكذا وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حديث شريف. لقد أشرت فى المقال السابق إلى أبحاث ومناقشات المشاركين فى مؤتمر مكتبة الإسكندرية حول كيفية مواجهة هذه الظاهرة المدمرة للبلاد والعباد وتساءلت: ماذا تنتظر المؤسسات المعنية؟.. ولماذا لا تكون هناك مواجهة عميقة وطويلة الأمد لهذا الفكر الهدام من خلال التعاون بين جامعة الدول العربية ومنظمة الدول الإسلامية؟. وفى الحقيقة.. لقد شهد المؤتمر عرض الكثير من الأبحاث القيمة كما اشتبك المشاركون فيه فى مناقشات جادة لتوصيف الظاهرة وتحديد أفضل السبل والأدوات لمواجهتها.. وقد طالب البعض بالمواجهة الأمنية للقضاء على قادة هذا الفكر واقتلاع جذوره، بينما رفض البعض ذلك محتجا بأن الفكر لا يواجه سوى بفكر أقوى منه وأصدق حجة، مشيرا إلى أن السجون لن تكون إلا «مفرخة» تمد تلك المنظمات الضالة بأجيال جديدة من المتطرفين. وقد أعجبتنى بعض الدراسات التى عرضت بالمؤتمر لجديتها وعمق تحليلاتها. ومنها دراسة المفكر الإسلامى ناجح إبراهيم عن «دواعش سيناء».. حيث تساءل لماذا يرتبط دائما التكفير بالتفجير؟.. أى لماذا تقوم هذه الجماعات المتطرفة بتكفير المجتمع ثم تستخدم العنف والتفجير لمقاومته؟. وقد بذل الباحث جهدا كبيرا فى بيان أن تكفير الآخرين ليس من لوازم الشريعة السماوية، وأن اليقين لا يزول بالشك، بمعنى أن المجتمع الذى يطبق الحدود فى العبادات والمعاملات.. وهذا التطبيق بمثابة اليقين الذى يعيشه ويراه كل الناس.. هذا المجتمع لا يجوز تكفيره بمجرد الشك من قبل بعض من لا يفهمون مقاصد الشرع ولا يحكِّمون عقولهم فى فهم النصوص القرآنية والأحاديث الشريفة، فأمثال هؤلاء وإن كان لبعضهم شىء من التدين الظاهر.. من خلال الدراسة أو القراءة.. هم فى كل الأحوال دعاة وليسوا قضاة! وقد كان الجزء التطبيقى فى دراسة د. ناجح على دواعش سيناء والذين بدأوا فى صورة خمس فصائل متطرفة ومتفرقة، ثم تجمعوا تحت اسم التوحيد والجهاد، ثم غيروا اسمهم فى فترة حكم الإخوان إلى «أنصار بيت المقدس»، وأخيرا أعلنوا بيعتهم للبغدادى مؤسس تنظيم داعش بعد أن نقضوا البيعة لأيمن الظواهرى رئيس تنظيم القاعدة! هؤلاء الدواعش يصفهم د. ناجح ب «سوبر تكفير» حيث يتبنون القياسات الخاطئة والباطلة، ومنها مثلا: قياس الجيوش العربية على جيش التتار! وقياس الحكام العرب بجنكيز خان زعيم التتار، بل قاسوا الدساتير العربية بالكتاب الغريب الذى وضعه «جنكيز خان» لجيشه وشعبه باسم «الياسق» والذى ضمنه خليطا عجيبا من الديانات المختلفة وادعى فيه أن بعض ما وضعه فى الكتاب أوحى إليه به، ومنها مثلا: من بال فى الماء قتل، ومن أطعم أسيرا قتل، ومن ذبح حيوانا ذُبح مثله!.. وهكذا من قواعد غريبة لا تستقيم منطقا ولا عقلا. ولكن السؤال: كيف تتعامل المجتمعات العربية مع هؤلاء العائدين من بؤر الصراعات؟.. فطبقا لبعض بيانات الخبير التونسى المختار بن نصير. هناك 4 آلاف مقاتل من أوروبا ذهبوا إلى كل من العراق وسوريا.. عاد منهم 25% فقط إلى البلاد التى سافروا منها، وهناك ألفا تونسى ومثلهم أو أقل من المغرب وليبيا ومصر وغيرها.. فالجماعات المتطرفة تقوم بتوريط «الأعضاء الجدد» فيها نفسيا وماديا فى العنف بشكل لا يسمح لهم بالعودة، ومع ذلك هناك من يعود هربا أو بسبب الإصابة.. أو لأسباب أخرى وبالطبع أغلبهم مشحون بالعنف معتقدا بجاهلية المجتمع وبكفره، وهنا ينصح الخبراء بإعادة التأهيل والإدماج فى المجتمع، وإلا تحولت تلك المجموعات إلى قنابل موقوتة، كما شاهدناها فى العديد من البلاد العربية. آخرون طالبوا.. بالوقاية قبل العلاج.. أى حماية الشباب من الوقوع فى براثن تلك التنظيمات المتطرفة، وذلك من خلال «تفكيك» الخطاب الدينى لتلك الجماعات وبيان خطأه وأخطائه، ثم إعادة إنقاذ النزعة الإنسانية للدين، فالباحثة الكويتية إيمان شمس الدين ترى أن الإنسان يبحث دائما عن الملاذ والمرجعية.. ومن ثم يجب أن تقوم المؤسسات المعنية بشرح وتبسيط الأحكام الدينية حتى ينشأ الشباب متسلحا بصحيح الدين فى العبادات والمعاملات محصنا ضد الوقوع والانجذاب لتلك الأفكار المتطرفة، مشيرة فى هذا المجال إلى «تحرير المؤسسات الدينية من الضغوط الحكومية والشعبية». وقد اجتهد الصديق د. خالد عزب فى نقد كتاب «معالم فى الطريق» لسيد قطب الذى بدأ أديبا وخطيبا مفوها ثم تحول إلى داعية مستخدما العنف وسيلة وأداة، لقد حاول خالد شرح الحاكمية عند سيد قطب ونقدها مستشهدا بالآية الكريمة فى سورة الأعراف (خذ العفو وأمر بالعُرف وأعرض عن الجاهلين)، فالحاكمية كما جاءت فى القرآن.. هى القضاء والفصل فى المظالم والخصومات، وتعتمد على الاتقان والفهم لأصول الفقه، مع استخدام العقل والقيام بالعمل. ??? الموضوع ليس بسيطا.. ويحتاج إلى تفصيلات كثيرة ولكن لابد من إعلان النفير العام للمواجهة المستمرة، فنحن أمة وسط وديننا يدعو للتسامح والمحبة ويقوم على إعمار الأرض وعبادة الله سبحانه وتعالى. أما أفكار التكفير والتفجير.. والهجرة والحاكمية فهى ضلالة وبدعة.. وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار.. والله أعلم.