رغم الانسحاب الجزئى للقوات التركية من الموصل شمال العراق، لاتزال قوات مدرعة رابضة فى منطقة بعشيقة فى محافظة نينوى العراقية مثار سخط العراقيين وعدد من القوى الإقليمية والدولية، ورغم أن تركيا بررت التدخل العسكرى بتدريب القوات العراقية لمحاربة داعش ووفقًا لاتفاقيات أمنية سابقة، وعدم قبول بغداد بمبررات الأتراك يبقى السؤال المهم، حول الأسباب الحقيقية للتدخل العسكرى التركى فى العراق؟ ويشير محللون إلى أن التدخل التركى رد فعل على تطورات سوريا وبقائها خارج الصورة التى تُرسم عسكريا وسياسيا. فضلا عن ميل أنقرة لترجيح الأكراد على حساب داعش، فأنقرة المهووسة بالقوة الكردية الصاعدة تعلم جيدا أن أكبر الرابحين جراء إضعاف داعش فى الوقت الراهن هم الأكراد. فأكراد العراق باتوا قاب قوسين أو أدنى من الموصل وأكراد سوريا تقدموا أكثر من أى وقت مضى لوصل الكانتون المتبقى على القرب من المتوسط بباقى الأراضى الكردية من جهة وللرقة، عاصمة داعش، من جهة أخرى. لذلك وبإدخالها قوة عسكرية للعراق، توجه تركيا رسالة واضحة لروسيا وإيران وغيرها من الدول المنخرطة فى عملية فيينا السياسية مفادها أن الأتراك لن يقفوا مكتوفى الأيدى إزاء عدم الأخذ بخياراتهم الاستراتيجية فى فيينا وغيرها، كما أنهم يملكون بعضا من الأدوات تمكنهم من عدم القبول بالخسارة عسكريا فى سوريا. ويرى المحللون أن التدخل العسكرى فى العراق يعد دليلا آخر على سياسة التخبط التى تسير فيها الخارجية التركية، فقد ترتب على موقفها من الأزمة السورية فقدانها علاقات اقتصادية مهمة، فضلا عن مضاعفات الأزمة السورية على استقرار تركيا الداخلى. كما أدت المجابهة مع روسيا إلى حدوث خلل فى العلاقة الاقتصادية بين البلدين، كما تأثرت العلاقات الاقتصادية مع العراق عبرمقاطعة السوق العراقى للمنتجات التركية، وإيقاف جميع المشاريع التى تنفذها الشركات التركية فى بغداد، لاسيما وأن حجم التبادل التجارى بين الجانبين يبلغ نحو 12 مليار دولار سنويا أكثر من نصفه مع إقليم كردستان، ومعظمها على شكل بضائع تركية تستهلك فى الأسواق المحلية العراقية، كما تعمل مئات الشركات التركية فى قطاعات مختلفة بالعراق من بينها الطاقة والأعمار. ولعلَّ الأهم منْ كلّ ذلك أو بموازاته، الخطأ الجسيم الذى يرتكبه القادة الترك، فى فتحِ جبهتين سياسيتين أو عسكريتين فى آنٍ واحد، فالمواجهة الروسية التركيّة لا تزال قائمة وآخذة للتوسّع فى مجالاتٍ متعددة، وافتعال الأزمة الجديدة مع العراق سوف يؤدّى إلى اهتزاز لحكومة أنقرة، مع عدم استبعاد العلاقة غير المباشرة للتدخل التركى فى شمال العراق بالتوتّر الروسى – التركى المتصاعد. ولكن ما هى السيناريوهات المتوقعة لتصاعد الأزمة؟ يرى المراقبون أن الولاياتالمتحدة قد تتدخل عند الحكومة العراقية لتصحيح الوضع بما لها من مصالح ونفوذ أيضًا، لكن المؤشرات ليست إيجابية خاصة مع إعلان واشنطن عن إيقافها تزويد الحكومة العراقية بالمعلومات الاستخبارية، وأجمع محللون سياسيون على أن أزمة القوات التركية التى دخلت العراق ستتصاعد أكثر خلال الأيام المقبلة برغبة روسية إيرانية للضغط بشكل أكبر على الحكومة التركية، مستبعدين تطور الأمر لمواجهة عسكرية مباشرة بين الجيش التركى والعراقى، لأن المشكلة ليست مع العراق بشكل مباشر، وإنما هى امتداد للأزمة بين تركياوروسيا، وستستمر الأزمة مع العراق لأن الأزمة مع روسيا تتجه للأسوأ فى الأيام المقبلة، فالأزمة مفتوحة على كل الاحتمالات فى ظل ارتباطها الأساسى بالخلاف التركى الروسى والخلاف التركى الإيرانى، والأسوأ من ذلك دخول الميليشيات الشيعية التابعة لإيران فى العراق على خط صناعة القرار هناك، وتهديدها بضرب المصالح التركية فى سورياوالعراق . وبدأت النتائج تظهر على الأرض فيما يمكن اعتباره تراجعًا تركيًا تكتيكيًا نتيجة تحركات القوى السياسية والعسكرية العراقية على الصعيد الشعبى والدبلوماسى من خلال الشكوى بمجلس الأمن ضد ما تصفه بغداد «انتهاكا للسيادة العراقية»، فانسحب قسم من القوات التركية المنتشرة فى معسكر بعشيقة قرب الموصل شمال العراق، وانتقل إلى إقليم كردستان العراق فى إطار «ترتيبات جديدة». وتخفيض عدد قواتها التركية إلى نحو فوج . ويبقى السؤال المهم وهو هل حانت الفرصة للدب الروسى؟ فلم تدرك تركيا حتى الآن أنها تلعب بالنار، التى يمكن أن تكتوى بها فى أى لحظة، فيبدو أن الرئيس التركى أردوغان لم يحسب هذه الخطوة جيدًا، ولم ينظر بعين الاهتمام إلى حلفاء العراق الإقليميين، وعلى رأسهم روسيا وإيران، فالتوغل التركى وإن كانت له أهداف ومصالح تعود بالنفع على الدولة التركية، إلا أن له آثارًا سلبية كثيرة لم تفكر فيها القيادة التركية، حيث إنه يأتى فى الوقت الذى تستشيط فيه روسيا غضبًا من تركيا، وينتظر فيه الدب الروسى الفرصة المناسبة لينقضَّ على السلطان التركى ويقتصَّ منه؛ تنفيذًا لتهديداته التى جاءت على لسان مسؤوليه فى أكثر من حديث، بعد إسقاط تركيا للمقاتلة الروسية على الحدود السورية التركية. التوغل التركى فى العراق جعل القيادة العراقية تضع داعش والقوات التركية فى خانه واحدة، يتوجب مكافحتها، وهو ما قد يدفع العراق إلى الاستعانة بروسيا لصد الهجوم التركى، كما أنه سبق وكانت على بُعد خطوات من الاستعانة بها لمساندتها فى مكافحة تنظيم داعش بعد إدراكها ضعف التحالف الدولى الذى تقوده أمريكا وعدم جديته فى مكافحة الإرهاب، وهو ما قد تتخذه روسيا ثغرة؛ لتنتهز الفرصة لتصفية حساباتها مع تركيا، خاصة فى ظل إدانة روسيا للتوغل التركى فى العراق.