عندما بدأت مصر نهضتها الحديثة فى عصر محمد على باشا حيث كان العلم والتعليم هو الأساس .. متمثلاً فى إرسال البعثات العلمية إلى الدول الأكثر تقدماً فى ذلك الوقت ، مع تفعيل دور العلم فى إيجاد قاعدة تعليمية راسخة فى كافة نواحى العلوم مع التركيز على القطاع الهندسى والطبى وقد اهتمت دولة محمد على باشا بالقطاع الهندسى وأولته اهتمامًا غير عادى فقد كان محمد على يقول دائمًا إن حضارات الشعوب والأمم تقوم على أكتاف المهندسين ويصونها الأطباء والفقهاء كان ذلك فى بدايات القرن الثامن عشر .وقد أولت الدولة المصرية فى ذلك الوقت الاهتمام البالغ بالتعليم والبعثات الخارجية لتخريج جيل قادر على التفاعل مع معطيات التكنولوجيا المعاصرة وربطها بواقع المجتمع ومشكلاته ومتطلباته . وكانت مصر متفوقة تكنولوجيا فى مفهوم ذلك العصر فى بدايات القرن الثامن عشر بل سبقنا دولاً كبيرة هى الآن أكثر الدول تقدماً مثل اليابان والصين والهند وكوريا بينما كنا نتفوق على اليابان والصين فى فترة بوابات القرن الثامن عشر . وكان عدم ربط البحث العلمى بالصناعة هو العامل الأول فى تدهور منظومة العلوم والتكنولوجيا فى مصر .. حتى أصبحت المراكز والمعاهد العلمية فى أغلبها مثل الجامعات للحصول على درجات الماجستير والدكتوراة .. فلم تكن الأبحاث العلمية موجهة توجيهًا قوميًا دقيقاً للتفاعل مع متطلبات المجتمع .. وبالطبع أصبحت تلك الأبحاث رغم جودتها حبيسة الأدراج لا يستفاد منها لأنها لم توجه لحل مشاكل المجتمع فى قطاعاته المتعددة . ورغم أننا فى مصر نمتلك قاعدة علمية كبيرة تتمثل فى أكثر من 22 مركزًا ومعهدًا بحثيًا متخصصًا إضافة الى العديد من حضانات التطبيق التكنولوجى .. ويغذى ذلك كله عددًا كبيرًا من الجامعات والمعاهد الحكومية والخاصة موزعة توزيعًا جغرافياً لا بأس به .. لكننا إلى الآن لم نحقق نهضة علمية يمكن الاعتماد عليها فى حل مشاكل المجتمع الأساسية .. حتى مجال الخدمات العادية مثل الصرف الصحى وشبكات المياه والطرق والكبارى ومشاكل المرور وغيرها .. للأسف إننا نعتمد على الخبرات الأجنبية فى حل تلك المشاكل . إن نقاط الضعف فى منظومة البحث العلمى فى مصر كانت ولا تزال هى أساس التخلف التكنولوجى الذى نعانيه فى العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين لا نمتلك رؤية استراتيجية تحدد الأهداف القومية المطلوبة من قطاعات البحث العلمى . وتتبعثر حاليًا المعاهد والمراكز البحثية بين أكثر من 16 وزارة وهيئة حكومية دون أى تنسيق أو تعاون. ورغم أن مصر بها وزارة دولة للبحث العلمى وأكاديمية للبحث العلمى والتكنولوجيا! .. إلا أن المضحك المبكى فى ذات الوقت هو التضارب فى اختصاصات كل من الوزارة والأكاديمية فالوزارة متمثلة فى وزير الدولة ليس له ديوان للوزارة أو هيكل تنظيمى إلا فقط أن يقطن فى أحد أدوار مبنى الأكاديمية المكون من 14 طابقاً لا تتعدى سلطاته – أى وزير الدولة للبحث العلمى – تسيير أمور إدارية تتعلق بالموافقة على السفر أو الموافقة على قرارات التعيينات الجديدة ، وما إلى ذلك من الأمور الإدارية البحتة. وبالطبع لا يلوم شخص الوزير أو الوزارة وإنما الانتقادات هنا توجه إلى التشريعات والقوانين التى تم إقحامها على قطاعات البحث العلمى لتكبل حركته وتقيد مسيرته فى تضارب عقيم لقوانين ولوائح لا تعرف قديمها من حديثها. وللخروج من الأزمة التى تعترض طريق البحث العلمى فى مصر لابد من تحديد نقاط الضعف وتشخيص العلل ونواحى القصور . ثم يعقب ذلك وضع إطار تشريعى متكامل ينظم كافة النواحى الإدارية والفنية وحقوق العلماء والباحثين والأفراد مع وضع إطار قانونى متكامل لسلطة القيادات فى الإدارة العلمية . وأن تكون تلك التشريعات متوازنة مع الرؤية القومية المفترضة فى توجيه البحوث لخدمة قطاعات الخدمات والصناعة وحل مشاكل الإنتاج . وبدون التحامل على قطاعات البحث العلمى .. متمثلة فى الباحثين والعلماء والكيانات البحثية ، فإن ضعف التمويل المتمثل فى الصرف على الأبحاث العلمية وتطوير مراكز ومعاهد البحوث .. بالتأكيد سيؤدى إلى ضعف الأداء المتمثل فى إنجاز أبحاث متواضعة لا تسمن ولا تغنى من جوع !! ويزيد من الصورة القائمة أن الإنفاق على البحث العلمى بكل كياناته لا يتعدى 6%من الدخل القومى للدولة المصرية فى حين أن دولًا نامية مثل الهند وباكستان وماليزيا واندونيسيا وسنغافورة .. تنفق على البحث العلمى ما بين 1.8 % إلى 3% من الناتج القومى لتلك الدول وهو رقم مهول قد يتعدى 60 مليار دولار فى العام لبعض الدول النامية مثل الهند .. فى حين أننا فى مصر نتطلع الى 1% من الدخل القومى وهو بالمقارنة بالدول الأخرى النامية يعتبر ضئيلًا جداً . والإنفاق فى مجالات العلم والتعليم والبحوث هو استثمار فى العقول لتنمية القدرات البشرية على حل المشاكل من خلال التشجيع على البحث الجاد والابتكار والاختراع والإبداع . لأن الاستثمار فى صناعة عقل الإنسان المصري الحديث .. هو أفضل استثمار، فإذا وصلنا الى بداية الطريق الصحيح نحو تنمية القدرات العقلية .. بالتأكيد سوف نصل إلى باحث وعالم متميز . وهناك دراسات تؤكد أن الاستثمار فى مجالات البحوث والعلوم وتنمية القدرات العقلية هو أفضل استثمار على الإطلاق ، فهو يعنى الاعتماد على الذات والاستغناء عن خبرات منقولة وخبراء أجانب يكلفون الدولة الكثير من الأموال . كما أن القدرة على حل مشاكل الإنتاج بعقول محلية وطنية يوفر الكثير من استيراد قطع الغيار وخطوط الإنتاج التى يمكن تصنيعها محلياً ، وبذلك نوفر الكثير من الأموال التى كانت تصرف فى تجديد خطوط الإنتاج . بدون شك أن مصر تحتاج إلى طفرة هائلة فى مجالات كثيرة لكن أهمها هو مجال البحث العلمى واستيعاب التكنولوجيا، وقبل ذلك كله لابد من إعطاء قبلة الحياة للكيانات البحثية فى مصر والتى أصبحت جسدًا مترهلاً مغيبًا تقريباً عن مشاكل ومتطلبات المجتمع المصرى.