لا يعرف الكثيرون عن الخديو سعيد سوى أنه منح فرديناند ديليسبس امتياز حفر قناة السويس بسبب عشقه للمكرونة التى كان يعدها له بيت ديليسبس! ولم تذكر مناهج التاريخ فى المدارس عنه الكثير، مثلما أغفلت أن الفلاح المصرى عاش عصره الذهبى فى فترة حكم الخديو سعيد الذى ألغى نظام الاحتكار وخفض الضرائب على الفلاحين وأسقط عنهم الديون المتراكمة، وأنه أول من وضع أساس التشريع الخاص بملكية الأطيان فى مصر، وأنه الذى وضع الأساس الذى بنى عليه نظام المعاشات المتبع فى مصر حاليا لموظفى الحكومة، ولم تذكر أنه أتم إنشاء خط السكك الحديدية بين القاهرةوالإسكندرية، لم تذكر أنه حافظ على علاقة مصر بالسودان واستمع إلى شكاوى أهل السودان واستجاب لهم، ولم يذكر عنه أنه توفى بالإسكندرية بعد صراع شديد مع المرض ودفن فى مسجد النبى دانيال الشهير بها.الخديو محمد سعيد هو رابع أبناء محمد على باشا والى مصر، وهو صاحب قرار منح حق امتياز حفر قناة السويس إلى فرديناند ديليسبس الموظف بالقنصلية الفرنسية فى الإسكندرية فى ذلك الوقت، هذا الرجل أثار الكثير من الجدل بسبب علاقته بفرديناند ديليسبس، وبسبب أعماله التى كان بعضها غريبا مثل إغلاق المدارس العليا التى أنشأها والده محمد على، والكثير منها حمل الخير للمصريين وخاصة الفلاحين وقد ارتبط الخديو سعيد بالإسكندرية وقضى فيها الكثير من سنوات عمره، وتوفى فيها ودفن فيها فى مسجد النبى دانيال الشهير بوسط الإسكندرية. ولد سعيد عام 1822م ،وتوفى فى عام 1863م. وقد تولى الحكم عام 1854 وكان عمره وقتها 32 عاما، وقد اختار له والده العمل بالبحرية فدربه على فنون البحرية وجعل شأنه شأن تلاميذها، ولما أتم دراسته انتظم فى خدمة الأسطول «قومندانا» لإحدى البوارج التى كانت ترفع علم مصر فوق ظهر البحار، واعتاد النظام الذى هو أساس الحياة العسكرية، فكان يحترم رؤساءه ويتساوى فى ذلك مع زملائه ضباط الأسطول، وارتقى سعيد فى المراتب البحرية حتى وصل فى أواخر عهد أبيه إلى منصب «سر عسكر الدوننمه» أى القائد العام للأسطول. تميز سعيد بعدة صفات كان منها الجيد ومنها السيئ فقد اتسم بطيبة القلب وسلامة القصد والكرم والشجاعة والصراحة والميل إلى الخير والتسامح وحب العدل والنفور من الظلم إلا أنه إلى جانب الصفات السابقة كان ضعيف الإرادة وكثير التردد، لا يستقر على رأى واحد، ومن هنا جاء تخبطه فى الخطط والبرامج والأعمال، بالإضافة إلى انصياعه إلى خلطائه من الأوروبيين، بالإضافة إلى سرعة تأثره بما يسمعه وكذلك سرعة غضبه ورجوعه عن غضبه لأوهى الأسباب، وكان إسرافه هو نقطة الضعف الأساسية فيه، وقد التجأ إلى الاستدانة من البيوت المالية الأوروبية، وقد كان حسن الظن بالأوروبيين، خاصة الفرنسيين مما جعل فرديناند ديليسبس يؤثر عليه تأثيرا كبيرا، وأدى هذا كله إلى أن يصبح للأجانب اليد العليا فى مرافق البلاد، ويسيطرون على الحكومة وسيادتها، وصار لأى قنصل أوروبى نفوذ لم يكن متوفرا لهم من قبل سواء فى عهد محمد على أو الخديو ابراهيم أو الخديو عباس. اللائحة السعيدية ورغم أن الخديو سعيد كانت له بعض القرارات الغريبة مثل عدم اهتمامه بالتعليم وإغلاق المدارس العليا التى أنشأها والده محمد على بسبب اعتقاده أن السيطرة على أمة جاهلة أيسر من السيطرة على أمة متعلمة، إلا أنه اهتم بالمجال الزراعى والملاحة وبذل جهدا كبيرا لإصلاح حالة الفلاحين، فقد أعطى الفلاحين حق الملكية للأراضى الزراعية، وسن لهذا الغرض قانونه المشهور باللائحة السعيدية الصادرة فى 5 أغسطس سنة 1858، وهى تعتبر من أعظم اصلاحاته، لأنها أساس التشريع الخاص بملكية الأطيان فى مصر. كما ألغى سعيد باشا نظام احتكار الحاصلات الزراعية، وذلك النظام كان معمولا به فى عهد والده محمد على باشا وصار للفلاح حرية التصرف فى محاصيله الزراعية، وكذلك له الحرية فى اختيار المحاصيل التى يرغب فى زراعتها. كما خفف عن الأهالى عبء الضرائب، بالإضافة إلى تجاوزه عن كافة المتأخرات التى عليهم نتيجة تراكمات عن سنوات سابقة، وقد كانت مبلغا كبيرا من المال فى ذلك الوقت (800.000 جنيه). سن سعيد باشا لائحة المعاشات للموظفين المتقاعدين والذين بلغوا سن المعاش، وهو الأساس الذى بنى عليه نظام المعاشات المتبع فى مصر حاليا لموظفى الحكومة. واهتم سعيد باشا أيضًا بتطهير ترعة المحمودية، حيث إنه منذ إنشائها فى عهد محمد على باشا لم تقم الحكومة بتطهيرها، وقد لجأ سعيد الى المسيو موجيل بك كبير المهندسين فيما يحتاجه هذا العمل الضخم. واهتم سعيد ايضا بالسكك الحديدية والتليغراف، فقد توفى عباس حلمى الأول قبل أن يتم خط السكة الحديد بين القاهرةوالإسكندرية، فأتمه سعيد باشا سنة 1856، وسار الخط عن طريق كفر الزيات وبنها حتى وصل الى العاصمة. إصلاحاته الحربية اشتهر سعيد باشا بميله الى الجيش، فاهتم بترقية شئون الجند، وكان كثيرا ما يقضى ايامه فى معسكر الجيش، وتعرض عليه شئون الحكومة وهو وسط الجنود. وقد بذل جهدا كبيرا فى سبيل تحسين احوال الجيش من الناحية المادية والمعنوية فقرر تقصير مدة الخدمة العسكرية، وجعلها سنة كما جعلها اجبارية للجميع من كل الطبقات، كما أهتم بحالة الجنود والترفية عنهم من ناحية الغذاء والمسكن والملبس وحسن المعاملة، وكان لهذا الاصلاح أثره الايجابى على المجندين واهاليهم. كما اهتم سعيد باشا بالبحرية المصرية بعدما أصابها من الاضمحلال والإهمال فى عهد عباس حلمى الاول، فاهتم بالاسطول البحرى ، وقام بإصلاح السفن الحربية المصرية بعد عودتها من حرب القرم وإنشاء سفن جديدة. كان ضعف شخصية سعيد أمام الأجانب من أهم الأسباب التى أدت الى زيادة النفوذ الأجنبى فى مصر وكان ذلك أبرز نقاط ضعفه، كما بدأ عهد القروض الاجنبية خلال حكم سعيد باشا، وقد كانت تلك القروض هى بداية الكوارث التى أصابت البلاد بعد ذلك خلال عهد اسماعيل وتوفيق. امتياز قناة السويس وكانت بداية الفكرة حينما أرسل المسيو فردينان ديليسبس رسالة يهنئ فيها سعيد باشا بارتقاء عرش مصر، ويبلغه عن حضوره ليقدم له فروض التهانى، (فقد كان والد ديليسبس «الكونت ماتيو ديليسبس» تربطه صلة قديمة بمحمد على باشا منذ كان قنصلا لفرنسا فى مصر سنة 1803)وكان ديليسبس صديقا لسعيد منذ صغره فأجابه سعيد على تهنئته، واستدعاه الى مصر، فسرعان ما جاء إلى الإسكندرية فى نوفمبر سنة 1854، واستقبله سعيد باشا بحفاوة بالغة فاغتنم ديليسبس هذه الفرصة ليفاتح سعيد باشا فى مشروع قناة السويس، وزين له أنه إذا وفق فى هذا المشروع فإنه سيخلد ذكراه ويكسب ثناء العالم بأسره، وكان سعيد باشا يعلم أن والده محمد على باشا قد رفض فكرة قناة السويس من قبل، إلا أنه قبل المشروع أمام إغراءات ديليسبس ووعده بمساعدته وتأييده فى تحقيقه. عندما وصل سعيد باشا إلى القاهرة ومعه فردناند ديليسبس لم تكد تمضى ايام معدودة حتى منحه بموجب العقد المؤرخ فى 30 نوفمبر سنة 1854 امتياز تأسيس شركة عامة لحفر قناة السويس، واستثمارها لمدة 99 عاما ابتداء من تاريخ فتح القناة للملاحة. وفى 25 أبريل سنة 1859 ذهب المسيو ديليسبس إلى شاطئ البحر الأبيض فى الموقع التى أنشئت فيه بعد ذلك مدينة بورسعيد، وأقيم هناك احتفال كبير ضرب فيه ديليسبس أول معول فى أرض القناة، واقتدى به الحاضرون، فكانت تلك الضربة إيذانا بالبدء فى العمل، وكانت فى الواقع هى أول ضربة فى صرح استقلال مصر. ومر المشروع بعد ذلك بعدة مشاكل إلا أن العمل استمر إلى أن جرت مياه البحر الأبيض فى القناة حتى بحيرة التمساح، وذلك فى 18 نوفمبر سنة 1862، وإلى هذه المرحلة وصلت القناة فى عهد سعيد باشا. وفاة سعيد باشا ذهب سعيد باشا إلى أوروبا ليستشفى من مرض خطير أصابه، إلا أنه لم ينجح فيه أى علاج فى الخارج، فعاد إلى الإسكندرية فى أواخر سنة 1862، وقد اشتد عليه المرض، حتى توفى فى صباح يوم 18 يناير سنة 1863، وقد بلغ من العمر 42 عاما، وقد كانت مدة حكمه ثمانى سنوات وتسعة أشهر وستة أيام، ودفن فى الإسكندرية فى مقابر أسرة محمد على الملاصقة لمسجد النبى دانيال الشهير بالإسكندرية وبعد عام تم نقل رفاته إلى مقابر العائلة بالإمام الشافعى بالقاهرة. ويقول المؤرخ ابراهيم العنانى عضو اتحاد المؤرخين العرب إنه فى يوم 17 نوفمبر عام 1869 عبرت أول سفينة قناة السويس يوم افتتاحها، وكانت سفينة مصرية ضخمة جدا كان اسمها (ايجل) أو النسر، وكانت تحمل على ظهرها ملوك العالم المدعوين لحفل الافتتاح، وكان يتبعها 77 سفينة أخرى منها 50 سفينة حربية، وكان مع الملوك الامبراطورة (أوجينى) امبراطورة فرنسا، وقد أقيمت موائد ضخمة جدًا واستراحات فاخرة، وتم إحضار 500 طباخ من الخارج لطهى طعام الموائد، حتى أن الامبراطورة اوجينى قالت لم أر فى حياتى أعظم من هذا الاحتفال. ولكن هذا البذخ أثار حفيظة المصريين حتى إن أحد الوزراء المصريين تحدث مع أحد الأمراء قائلًا (إننا نأكل أحجار الأهرامات حجرا حجرا ثم نشاهد هذا الإسراف الكبير) وذلك ليدلل على صعوبة الحالة المادية للمصريين مقابل البذخ الشديد فى الاحتفالات. ويقول العنانى إنه قد تم طرح عدة أفكار لإطلاق اسم على قناة السويس الجديدة، ولكن تم الاستقرار على تسميتها بقناة السويس حتى لا يعطى الاسم الجديد أى حق لأى دولة للحديث فى تغيير معاهدة القسطنطينية الخاصة بعبور السفن فى قناة السويس والتى وقعت فى 29 أكتوبر عام 1888.