فى مثل هذه الأيام قبل عامين توجه وزير الدفاع القائد العام للقوات المسلحة الفريق أول عبدالفتاح السيسى بخطاب إلى الشعب المصرى يطلب منه النزول إلى الميادين ليعلن تفويضه الجيش والشرطة لمواجهة العنف والإرهاب. كان لسان حال القائد العام للقوات المسلحة فى طلبه هذا وكأنه يقول للمصريين بلغة الجيش: أريد موافقة صريحة على أمر التحرك.. أريد أن يطمئن قلبى على أن إسقاط حكم الإخوان هو اختياركم الحقيقى، فنحن وإياكم سوف نتحمل تبعة هذا الاختيار، مره قبل حلوه، لأنه ليس هناك من بديل إلا سقوط الدولة المصرية، وذهابها فى طريق اللا عودة .(1) وما تم الكشف عنه وعرفناه بعد ذلك هو أن الجيش وعلى رأسه وزير الدفاع السيسى كان قد وصل إلى هذه النتيجة بعد محاولات عديدة فاشلة حاول فيها بعض العقلاء الوصول مع الإخوان - عبر التفاوض – لحلول سياسية للخروج بالبلاد من مأزق الانقسام الرهيب الذى كان قد ضرب بسوره بين المصريين وحكم الإخوان، وبعد أن ثبت عمليًا ونظريًا فشل الأخيرين الذريع، ليس فقط فى إدارة أمور الدولة فى الداخل والخارج ولكن أيضًا – وهذا هو الأخطر – فشلهم فى إدراك حقيقة مايدور حولهم .. فى الداخل المصرى فى سيناء، أو على الحدود فى ليبيا، وأثبتوا أيضًا بطرق عديدة فشلهم فى إدراك الواقع الإقليمى القريب منا فى سوريا والعراق، والتحرك الخارجى نحو منطقة الشرق الأوسط، وأثبتوا فى تحركاتهم على الأرض أنهم لم يحسنوا على الإطلاق قراءة المصالح الغربية الصهيونية فى مخطط الربيع العربى، هذا على الرغم مما يقال عن امتلاكهم لكوادر من السياسيين والأكاديميين والمترجمين والمفكرين، فقط صدق الإخوان - بوحى واتفاق مع الدوحة وأنقرة وطهران - أن العرب يعيشون عصر الثورة الإسلامية، وأن حلم الخلافة يتجسد فى هذا الربيع، وأن خليفة المسلمين يقف على الأبواب ينتظر أن يسرجوا له حصانًا فيركبه ويتقدم الجيوش الإسلامية، شيعة وسُنّة، فُرس وترك، عرب وكرد، لغزو القدس وتحريرها فإعلانها عاصمة دولة الخلافة التى عادت. رأوا هذا موهومين، ولم يروا كل عناصر الأمة تدخل فى حرب مهندسة وممنهجة ومخطط لها منذ زمن، الشيعة والسُنّة يتقاتلون فى سوريا والعراق، تركيا تسعى للبحث عن مجدها العثمانى البائد، وإيران الفارسية الشيعية تتمدد على حساب العرب السُنّة تزرع فى بلدانهم ميليشياتها وتدعمها بقوة الأيديولوجيا والسلاح والأموال.. المنطقة تتفجر وإسرائيل وأمريكا ينتظران وعد الإخوان بفتح الحدود مع غزة لاستيعاب الفلسطينيين بديلا عن عودتهم لأراضيهم المسلوبة فى فلسطين.. وما سبق قليل من كثير لم يستوعبه الإخوان فى سكرتهم بالسلطة واندفاعهم فى تعويض مافاتهم منها منذ تأسيس حركتهم وما تصوروا أنها حقوق لهم سلبهم إياها الجيش المصرى أو المؤسسة العسكرية منذ ثورة 23 يوليو 1952 وحتى وصول مرسى إلى الحكم (!!) (2) فى هذا التاريخ الذى نتحدث عنه وهو يوم الخميس الموافق الخامس والعشرين من يوليو 2013 كان عبدالفتاح السيسى مازال يرتدى بزته الميرى فهو وزير الدفاع، والقائد العام للقوات المسلحة وهو أيضا النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء، وفوق هذا هو أحد أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذى تولى إدارة مصر خلال الفترة الانتقالية التى امتدت من 11/2/ 2011 وحتى تسليم السلطة لمحمد مرسى فى 30 /6/ 2012.. عام وأربعة شهور تقريبا، اضطر فيها المجلس العسكرى (كما يسميه المصريون) للاشتغال بأمور السياسة والحكم إلى جانب مهماته الأساسية فى الدفاع عن البلاد وأمنها فى الخارج والداخل. وقد أتاحت هذه المدة لرجال المؤسسة العسكرية أن ينغمسوا فى مستنقع السياسة فيطّلعوا ويستوعبوا حجم المؤامرة التى يتم تنفيذها ضد مصر، ويلمسوها عن قرب، بداية مما كان يحدث فى الشقق وفوق أسطح العمارات المطلة على ميدان التحرير فى أيام ثورة يناير الأولى واختراق جواسيس الموساد وأجهزة مخابرات أكثر من 15 دولة أجنبية أخرى للأمن القومى المصرى وانتشار عملائها وسط الثوار مرورًا بما حدث فى الفترة الانتقالية من صراعات الاستقطاب الأيديولوجى فى الداخل واستمرار محاولات الخارج المستمرة بإصرار للدفع بفصيل وأشخاص معينة للحكم لتخدم مصالح وأفكار الغرب، وتضر بمصالح مصر الاستراتيجية، مرة عبر مجلس رئاسى يتم فرضه، ومرات عبر تشكيل الحكومة إلى أخر هذه الأحداث التى عرفها المصريون، وتصوروا أنها انتهت بالوصول إلى استحقاق الانتخابات الرئاسية التعددية الحقيقية لأول مرة فى تاريخهم الحديث والتى اضطر فيها المصريون للأسف انتخاب مرسى هربًا من إعادة رموز نظام مبارك للحكم وفى موقعهم القريب من الأحداث أدرك رجال المجلس العسكرى وعلى رأسهم وزير الدفاع خلال فترة حكم مرسى أن جماعة الإخوان وواجهتها الحاكمة يقودان مصر إلى كارثة محتومة لن تفضى إلا إلى تقسيم مصر – كما يراد لها من أعدائها – وإن خطوات هذا التقسيم سوف تبدأ بدخول المصريون أنفسهم فى حرب أهلية يتخندق فيها الإخوان ومناصريهم فى خندق مقابل باقى المصريين الذين آمنوا بفشل الإخوان وعنصريتهم وسعيهم لإنشاء مؤسسات إخوانية بديلة من جيش وأمن وقضاء. وعند هذه اللحظة الفارقة التى استحالت فيها العشرة بين الشعب وحكامه من الإخوان، اضطر رجال الجيش للتحرك مرة أخرى نيابة عن الشعب لإنقاذ مصر مرة أخرى، وتوجهت أطراف عديدة لمرسى وجماعته تحاول أن تفهمهم وتوضح لهم ما آلت إليه الأمور من خطورة، لكن الأخيرين أصروا على التمسك بالحكم رغمًا عن أنف الجميع وتوعدوا الجميع بالحرب فى حال الدخول معهم فى مواجهة، وما كشفت عنه الأحداث وشهودها – فيما بعد – أكد كل ما سبق، السيسى نفسه عاين هذه النتيجة حين اجتمع فى الساعات الأخيرة الحاسمة قبل 3/6/ 2013 بخيرت الشاطر مفاوضًا عن الجماعة وطلب منه الاحتكام لآليات الديمقراطية للتأكد من اختيارات المصريين وإرادتهم، ومع رفض مفاوض الجماعة والكشف عن إصرار جماعته للتمسك بخياراتها دون أدنى اعتبار لمصلحة الوطن اضطر وزير الدفاع للرد عليه بعبارته المشهورة «أنتم لتحكمونا لتقتلونا»!! فلما أجبروا على ترك الحكم هاهم يسعون لقتلنا بكل طريقة وأى طريقة. (3) مرة أخرى نعود إلى الكلمة التى ألقاها السيسى قبل عامين والتى حوت طلب التفويض من الشعب وقال فيها ضمن ما قال مخاطبًا الشعب: «حتى تذكر الدنيا أن لكم قرارًا وإرادة، وإنه لو تم اللجوء للعنف والإرهاب يفوض الجيش والشرطة لمواجهتهما» فكان هذا السبب الأول لطلب التفويض وأعاد وزير الدفاع التأكيد على أن القوات المسلحة تعاملت بعد تسليم السلطة فى 30/6/2012 إلى قيادة مدنية منتخبة (يقصد الرئيس مرسى) بإخلاص وأمانة وشرف.. لم تغدر أو تتآمر أو تخن، وبنص كلماته قال: «كنا أمناء جدًا فى إعطاء النصيحة المخلصة والأمينة».. هذا هو الجيش المصرى الذى وصفه السيسى بأنه أسد و لايمكن للأسد أن يأكل أولاده، قال ذلك فى إشارة منه إلى جيوش دول مجاورة حاربت شعوبها على أرضية طائفية، أما الجيش الوطنى المصرى فلم ولن يعرف الطائفية أو الولاء لأشخاص ولا هو مسيس أو مؤدلج. (4) .. نحن لا نستعيد الآن هذه الكلمات والمعانى لنذكّر أنفسنا بما اتفقنا عليه مع الجيش المصرى ورجاله قبل عامين، أو نتذكر معهم تلك الأيام التى شعر فيها المصريون بالانتصار على ظروفهم الصعبة فخرجوا فى ثورة ثانية بعد ثورة يناير ولكننا نستعيدها لنسأل: ماذا حدث خلال العامين الماضيين اللذين دخلت فيهما قوات الجيش والأمن فى حرب ضد الإرهاب؟! وماذا فعلنا نحن باقى أفراد الشعب؟! هل اكتفينا بمتابعة الأحداث البعيدة عن بيوتنا وأشخاصنا على طريقة جحا؟! هل قلنا للسيسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون؟! هل اكتفينا بمشاعر الأسى على الضحايا الذين يسقطون، والأمانى بدحر الإرهاب؟! أين إرادتنا؟! هل سنبقيها حبيسة صدورنا؟! ولماذا لانحولها إلى أفعال ومبادرات؟! ولماذا لا نجدد التفويض لجيشنا وقوات أمننا ونعلن وقوفنا فى ظهر القضاء ونسعى إلى حماية جيراننا القضاة وضباط الجيش والشرطة.. أسئلة كثيرة يجب أن نطرحها على أنفسنا وسوف نجد أننا مقصرون ليس فى حق الوطن والدولة المصرية ولكن فى حق أنفسنا جميعًا.