كنا فى نهاية عام 1944.. وكانت الحيرة تغلفنا جميعًا بحثًا عن طريق لنا ولمصر وذات يوم مر علىّ الضابط عبد المنعم عبد الرءوف وعرض علىّ أن نلتقى بضابط آخر يحمل ذات الهموم ويبحث عن إجابات لذات الأسئلة وأخذنى لأقابل الضابط جمال عبد الناصر وكان لقائى الأول معه.. لكن عبد الرءوف بعد ذلك أعطانى موعدا فى جزيرة الشاى بحديقة الحيوان، حيث قابلت الصاغ محمود لبيب وعرفت فيما بعد أنه المسئول عن الجناح العسكرى فى حركة الإخوان المسلمين وكان يحضر اللقاء معى زميلى عثمان فوزى وبدأ لبيب يتكلم عن الدين وكان يجيب عن أسئلتنا حول الوطن ووسائل تحريره والنهوض به بذكاء شديد.. وفى طريق العودة قال لى زميلى عثمان: إن هؤلاء الإخوان جماعة خطرة وضارة!! كان ذلك بعد 16 عاما من إطلاق تنظيم الإخوان.. والقصة السابقة جاءت على لسان خالد محيى الدين عضو مجلس قيادة الثورة فيما بعد وضابط سلاح الفرسان فى هذا الوقت، وذلك فى كتابه (الآن أتكلم) الذى صدر عام 1992.. كان خالد يظن أن الاتجاه الإسلامى بين الضباط والشباب يمكن أن يبث روح التضحية فى نفوسهم.. ثم اكتشف غير ذلك تمامًا لأن الحركة لم تكن خالصة لوجه الله والوطن. المشهد الثانى: نجحت جماعة الإخوان فى استقطاب مجموعة ضباط.. وكانت الاجتماعات تتم فى البيوت.. مرة فى بيت مجدى حسنين وأخرى فى بيت الضابط أحمد مظهر (الفنان بعد ذلك).. ومن هؤلاء الضباط كمال الدين حسين وحسين الشافعى وعبداللطيف البغدادى وحسن إبراهيم.. وأيضًا جمال عبد الناصر الذى كان يدرك مبكرًا أن الإخوان يريدون استغلال الضباط كمصدر نفوذ لهم فى صفوف الجيش.. وكان واثقا أنهم لن يقدموا شيئا للقضية الوطنية التى كان هدفها طرد المحتل الانجليزى ومحاربة فساد الملك والحاشية.. وقال لهم جمال صراحة فى جلسة من الجلسات: إذا كان لديكم نصف مليون عضو كما تقولون فى أربعة آلاف شعبة فلماذا لا تتحركون بضرب قوات الاحتلال وتتحركون فى الشارع بشكل واضح؟! ولم يجد الإجابة عن هذا السؤال ولا الأسئلة التى تم طرحها بعد ذلك: ما هو برنامج جماعتكم؟ فقالوا: الشريعة.. وماذا ستقدمون للشعب فى التعليم والإسكان وغيرها من القضايا الاجتماعية؟! كان الأمر مدهشا فكيف تكون الشريعة هى البرنامج فى بلد أغلبه من المسلمين؟! المشهد الثالث: جاء حسن البنا المرشد العام لكى يجيب عن الأسئلة التى فشل رجاله فى الإجابة عنها.. وفى ذلك يشهد خالد محيى الدين بأن البنا كان يمتلك مقدرة فذة على الإقناع وعلى التسلل إلى النفوس وكان قوى الحجة وواسع الإطلاع وقال بلغة هادئة ذكية فى جلسة حضرها جمال عبد الناصر مع خالد: يا حضرات الضباط.. الجماعة تعاملكم معاملة خاصة ولا تطالبكم بالولاء الكامل لها، ثم باقى الأعضاء المنتظمين فيها.. فنحن جماعة الإخوان مثل البهو الواسع الفسيح الذى يمكن لأى مسلم أن يدخله من أى مدخل يريده لكى ينهل منه ما يشاء.. فالذى يريد التصوف يجد لدينا تصوفا.. ومن يريد أن يتفقه فى الدين فنحن جاهزون.. ومن يريد رياضة وكشافة عندنا.. ومن يريد نضالا وكفاحا يجدهما.. وأنتم تريدون التعاون معنا من أجل القضية الوطنية فأهلا وسهلا.. ولما عاد خالد يسأله عن برنامج الجماعة قال: لو وضعت برنامجا لأغضبت البعض وأرضيت البعض الآخر.. وسأكسب ناسا وأخسر آخرين.. وأنا لا أريد ذلك. وتعددت اللقاءات بعد ذلك التى حضرها حسن البنا لا كلامه ومنطقه وأسلوبه تغير.. ولا الضباط الشبان وجدوا فيما يقول ما يقنع أو يدخل الدماغ! وجاء عبد الناصر بعد ذلك بالخلاصة بعد سلسلة من اللقاءات:(اسمع يا خالد.. الجماعة تريدنا كضباط لكى تحقق أهدافها!.. ومع ذلك أصر البنا على تجنيد خالد وجمال فى الجهاز السرى للجماعة! المشهد الرابع: جاء الضابط صلاح خليفة واصطحب جمال وخالد إلى بيت قديم فى حى الدرب الأحمر.. وهناك كما يحكى خالد تمت مقابلة عبد الرحمن السدى المسئول الأول عن الجهاز السرى للإخوان فى هذا الوقت..وادخلونا إلى غرفة مظلمة تمامًا واستمعنا إلى صوت مميز، ووضعوا أيدينا على مصحف ومسدس وطلب الصوت أن نردد خلفه يمين الطاعة للمرشد العام فى المنشط والمكره أى الخير والشر، وبذلك تمت البيعة الشاملة على كتاب الله وسُنة رسوله! المشهد الخامس: عاد خالد وجمال بعد الخروج من الغرفة المظلمة يضحكان مما جرى وينظران إليه باستخفاف.. ولكنهما أرادا اكتشاف المزيد من أمر الجماعة التى قررت الاستفادة منهما كضابطين للتدريب على السلاح فى منطقة قريبة من حلون. ويبدو انها كانت بداية النهاية، لأن عبد الناصر لم يهضم هذا الأسلوب، ثم اندلعت مظاهرات عام 1946 وقررت الحكومة الاستعانة بالجيش لضرب المتظاهرين.. ورفض الضابط هذا الأمر.. إلا إذا أعلن البوليس أنه فشل تمامًا وبشكل رسمى.. ورفض حكمدار البوليس هذا الشرط.. وأفلت الجيش من المأزق أن يصطدم بشعبه. المشهد السادس: وبدأت جماعة الإخوان تكشف عن وجهها السياسى وتصرفت كجماعة سياسية، وتخلت عن دعاوى النقاء الدينى وبدأت تصطدم باللجنة الوطنية للعمال والطلبة.. واتضح أنها لا تعمل إلا لمصلحتها فقط.. وكان قرار الابتعاد تمامًا عن الإخوان من جانب خالد وجمال. ثم كشفت الأيام بعد ذلك كيف كان عبدالمنعم عبد الرءوف وثيق الصلة بالإخوان.. وأيضًا وثيق الصلة بجمال عبدالناصر.. ووثيق الصلة بالقصر الملكى.. وأيضًا مع الضابط الكبير عزيز المصرى.. أى أنه كان يلعب على كل الحبال.. فقد وجدوا بعد ذلك كتابًا عسكريًا خاصًا بضباط الجيش عن طريقة صنع القنبلة اليدوية مكتوب عليها اسم جمال عبدالناصر، وقد تم تسريبه إلى الإخوان بدون علمه.. وبعدها بأسابيع قليلة وتحديدا فى عام 1947 ظهرت منشورات تحمل اسم «الجمعية العسكرية لاتحاد رجال البوليس والجيش».. لأن الإخوان كانوا يلعبون لحسابهم الخاص.. وعلى حساب الوطن!