هناك مفكرون كان لهم فضل الريادة فى طرح القضايا والأفكار التى لانزال نحتاج إليها فى صنع التقدم الفكرى والحضارى لأنفسنا وللأجيال القادمة، ولعل من المناسب فى هذه اللحظات الفارقة من تاريخ أمتنا أن نتذكر هؤلاء الرواد ونتعرف على رؤاهم الفكرية للطريق الذى ينبغى أن نسلكه لنخرج من عباءة التقليد والجمود إلى رحابة الإبداع الحضارى المستقل استنادا على تراثنا الحى والإمكانات الهائلة الذى يعطينا اياها التقدم العلمى المعاصر الحافل بالعقلانية والمناهج العلمية التى تتيح التقدم لكل من عمل بها وفكر من خلالها . إن تلك كانت دعوى هؤلاء الرواد وذلك ماينبغى أن نتطلع إليه الآن ونعمل من خلاله على تقدم أمتنا لنضعها فى المكانة اللائقة بها بين الأمم فى العالم المعاصر. لقد تنوع إنتاج د. مصطفى فهمى العلمى بين المحاضرات والخطب والمقالات الصحفية، والبحوث العلمية والترجمات. أما فى مجال المحاضرات والخطب فكان أبرزها محاضرات عن «أوقات الفراغ وكيف نستثمرها عام 1936، و«الضعف الخلقى وأثره فى حياتنا الاجتماعية» عام 1940، وخطبته فى ذكرى المولد النبوى عام 1942، وقد نشر له معهد الدراسات العربية عام 1955 سلسلة محاضرات عن رائدات النهضة النسائية الحديثة، و«ذو الشوق القديم»، و«أن تسلى». وللأسف لم ينشر له محاضراته التى ألقاها فى الجامعة وفى مدرسة المعلمين العليا وإن كانت قد اتجهت فى أغلبها إلى الأخلاق والدراسات الاجتماعية. أما فى مجال المقالات الصحفية، فقد جمعت ونشرت معظمها فى كتاب حمل عنوان «خطرات نفس» فى نحو 220 صفحة، وكانت هذه المقالات التى كتبت فيما بين عامى 1915 و1930. وقد وصف محمود تيمور هذا الكتاب بقوله «لك أن تسميه كتابا، ولك أن تسميه صوتا منبعثا من قراءة النفس، ينبغى أن ينفذ إلى قرارات النفوس، ولك أن تسميه سمرا رفيعا تحدث فيه صاحبه إلى الناس حديثًا عامرًا بضروب من التأملات واللفتات فى الحياة والأخلاق». وقد اعتبره «نموذجا للبيان العربى فى طوره الجديد». وقد نشرت بعض هذه الخطرات التى لم تنشر فى ذلك الكتاب عام 1930 فى الكتاب الذى أصدره وأعده ابنه سداد تحت عنوان «من تراث منصور فهمى» ونشرته دار الكتب والوثائق القومية بالقاهرة عام 2013. وتقوم الهيئة المصرية العامة للكتاب الآن بنشر أعماله كاملة. أما فى مجال البحوث فقد كان أهمها بالطبع بحثه الذى نال عنه درجة الدكتوراه عن «مركز المرأة فى الإسلام» ونشر بالفرنسية كما ترجم إلى العربية عام 1997م، وقد اعتبر عملًا رائدًا بلا شك رغم كل اللغط الذى ثار حوله. وقد كتب بحثا آخر بالفرنسية عنوانه «قراء وأميون» تقدم به إلى أحد المؤتمرات العلمية. ومن البحوث التى نشرت له فى مجلة مجمع اللغة العربية الجزء الأول «تاريخ المجامع» وفى الجزء الثانى نشر له بحثا عن «الأضداد». أما فى مجال الترجمة، فقد ترجم للشاعر الألمانى الكبير جوته قصة «هرمان ودوروثيا» بمناسبة مرور مائة عام على وفاته. ولنتعرف الآن على فلسفته الأخلاقية والاجتماعية، فلقد كان منصور فهمى يؤمن بنظرة شمولية لمعنى الفلسفة حيث ثمن حرص الفلسفة منذ القدم على أن تلم بأشتات العلم وأن تتلمس مختلف المعارف لترد ذلك المجموع إلى أصول تحصر وكُليات تُمتلك» إن الفلسفة فى رأيه «توجه إلى الكليات» ومع ذلك فإن الفلسفة فى رأيه قد راضت أهلها منذ القدم على عادات من التواضع العلمى له أساليبه حتى أن الجزم والقطع أكره إلى أكثرهم من التردد والحيرة وبخاصة إذا استطالت أذهانهم إلى أعقد المسائل كالنفس والموت والحياة والحقيقة والحكم على قيم الأمور». بهذه الكلمات عبر منصور فهمى عن نسبية الحقيقة الفلسفية وأن الفلاسفة حريصون كل الحرص على عدم إصدار أحكام قطعية على الموضوعات التى يبحثونها، مما يعنى أنه مؤمن بأن الفلسفة بحث دائم لا يتوقف عن الحقيقة ولكن من هذا المنظور الذى يتسم بالتواضع والنسبية. ولعل هذا الفهم العام لمفهوم الفلسفة وتواضع الفيلسوف هو ما نجده واضحا فى تأملات فهمى وآرائه الفلسفية حول معظم القضايا التى تناولها سواء فى خواطره أو فى بحوثه الفلسفية والاجتماعية والأخلاقية. ففى مجال الأخلاق تبنى فهمى المنظور الاجتماعى لفهم الظواهر الأخلاقية، ويبدو ذلك حينما كتب عن «الضعف الخلقى وأثره فى حياتنا الاجتماعية» أنه يرده إلى أمور ثلاثة هى: 1-مسايرة الهوى والخضوع لسلطات الشهوات. 2- الإغراق فى المجاملة. 3- ضعف الشعور بالغيرية. وقد رد فهمى الأخلاقية والشعور الخلقى لدى الإنسان إلى الضمير الأخلاقى، والضمير لديه «ليس إلا حسا معنويا أو ذوقا روحانيا يتركب من عناصر الحياة الاجتماعية، وخلاصة التجارب فى العيش والمعاملات». وقد أكد على صحة رؤيته تلك للضمير الأخلاقى من هذا المنظور الاجتماعى بنظرة تاريخية مفادها «أنه منذ تكونت الجماعات البشرية والناس تغمرهم حاجات هذا الوجود وشئونه، ويسبحون فى خضم واسع من الخبرة والمحن. وقد تتوارث الأجيال هذه الاختبارات التى لا تحصى فتتلقاها الذرارى وتتبادلها الشعوب المتغايرة. ومن هذا التوارث وهذا التبادل يتخلف من الحياة ذوق أخلاقى، يصيب منه الأفراد أقدارا مختلفة باختلاف أحوالهم وتربيتهم». وليس معنى الإقرار بهذا البُعد الاجتماعى فى فهم الحياة الأخلاقية للإنسان أن منصور فهمى ينكر الجوانب الأخرى المؤثرة فى حياة الإنسان الأخلاقية وخاصة دور الدين والتربية الدينية، فهو يؤمن بالتوازن بين دور الدين ودور العقل والعلم فى التأثير على أخلاقيات الإنسان؛ «فقد كان أهم ما فى دعوة الرسل التبشير بحياة أفضل وتهيئة أخلاق الناس لقبول هذه الحياة الأفضل، وإرهاف شعورهم وعواطفهم لذلك، حتى إذا جاء دور العقل والعلم كان عليه أن يصوغ بعلمه وأساليبه تلك الحياة البشرية الأفضل التى يعم فيها الخير والسلام». إن إيمان منصور فهمى بالمذهب الاجتماعى فى التفسير والتحليل لم يقف عند حدود رؤيته لتفسير الأخلاق، وإنما تعداه إلى رفض مذهب الفردية والأنانية سواء من الناحية الأخلاقية أو فى مجال التفسير الحضارى إذ أن مذهب الفردية الأنانية فى رأيه «إذ يحتفظ لبعض أفراد من الصفوة بحق الكرامة والسيادة قد يعرض الثقافات والحضارات للركود بل للزوال والضياع.. فالثقافات والحضارات لا تستقر ولا تقوى إلا إذا كان الأساس الذى تقوم عليه منبسطًا واسع الرقعة.. إن الجمع البشرى هو الأصل وكل فرد إنما هو مدين لهذا الأصل بوجوده المادى والمعنوى فالنزعة الغيرية هى أحق النزعات بإكليل الكرامة». ورغم غلبة المذهب الاجتماعى على منصور فهمى فى معظم ما كتب وفى الكثير من مجالات فكره وخاصة الاجتماعى والأخلاقى، إلا أنه فى ميدان التفسير الجمالى ينهج منهجا مختلفا، فمذهبه فى الجمال يرتد إلى النفس شعورًا مباشرًا بالجميل لذاته. وعنده أن الشعور بالجمال وبالجميل يتميز عن الشعور بالنافع والجليل وأن النفس تستشعر الحرية من كل قيد حين تحس بالجمال أينما وجد وحيثما وجد، وإذا كانت معظم المذاهب الجمالية الحديثة فى علم الجمال تنفى عن الطبيعة صفة الجمال أو تقلل منها وترد هذا الشعور إلى الذات فقط، وأنها هى التى تخلع على الطبيعة ما فيها من جمال فإن منصور فهمى- فيما يرى د. أحمد فؤاد الأهوانى- يذهب مع القدماء إلى أن الكون جميل؛ لأن وراء الكون ووراء الكائنات خالقًا مبدعًَا أراد أن يصوره على هذا النحو البديع. ومن هنا فقد امتزجت فلسفته الجمالية بنزعة صوفية دينية. إن هذه الآراء الفلسفية الأخلاقية والاجتماعية والجمالية التى يبدو فيها الاعتدال والوسطية والتى تأثر فيها بالمذهب الاجتماعى الذى كان عادة مايميل إليه لم تكن تعنى أبدا أنه اكتفى بهذه الرؤية التكيفية مع الواقع والداعية إلى تغييره وتطويره بهدوء وتدرج، لأن الحقيقة أنه كان يمتلك عقلية نقدية ثائرة يدركها كل مم اطلع على رسالته للدكتوراة التى كتبها فى باريس عن مكانة المرأة فى الإسلام، وهذا هو موضوع مقالنا القادم عن منصور فهمى.