عام 1955 كان عبد الحليم خفاجى الشاب الإخوانى يبلغ من العمر 23 عامًا وفى هذا العام وفى هذا العمر سٌجن خفاجى ضمن من سجنوا من الجماعة وفيما بعد سجل خفاجى فى كتابه المهم المعنون ب «عندما غابت الشمس» أهم ما خرج به من تجربته وتجربة جماعة الإخوان فى سجن الواحات وأهم ما فيها – من وجهة نظره – حديثه عن خلافات الجماعة وانقساماتها داخل السجن بسبب ما عرف ب «فتنة تأييد عبد الناصر» ، وتحليل أسباب هذه الفتنة (إذا جاز أن نستخدم وصف الجماعة) وما قادت له يمكن أن يقودنا إلى تفسير جانبا من أسباب الأزمة الحالية التى تعيشها الجماعة ويقودنا أيضاً إلى بدايات ما يمكن أن نسميه تاريخ المراجعات ليس داخل جماعة الإخوان فقط ولكن أيضا داخل تنظيمات الجماعات الراديكالية التى خرجت من عباءة الإخوان ، وهذا التاريخ يبدأ مع حوادث العنف الأولى التى ارتكبها التنظيم الخاص للإخوان المسلمين وصولا إلى ما نراه الآن من عنف ووحشية جماعات السلفية الجهادية فى سيناء أو الخلافات المتفجرة والانشقاقات داخل صفوف جماعة الجهاد والجماعة الإسلامية بسبب مواقف قادتها وزعمائها الحالية من جماعة الإخوان المسلمين. (1) فى 26 أكتوبر 1954 وأثناء إلقاء خطابه فى ميدان المنشية بالإسكندرية جرت محاولة اغتيال جمال عبد الناصر وتم اتهام الإخوان بتدبير وتنفيذ المحاولة الفاشلة وتم القبض على عدد ليس بقليل من قيادات وكوادر الجماعة وجرت محاكمات سريعة لهم تم الحكم فيها على عدد كبير من أعضاء الجماعة وتم تنفيذ هذه الأحكام فى عدد من السجون أشهرها ليمان طرة والمحاريق والواحات. وفى أواخر عام 1955 تم نقل الشاب الإخوانى عبدالحليم خفاجى الذى يقضى فترة عقوبته فى قضية المنشية من سجنه فى ليمان طرة إلى سجن الواحات، وفى هذا التاريخ لم يكن قد مر على حادث المنشية إلا عامًا تقريبًا حين انضم خفاجى إلى أقرانه الذين سبقوه بشهور لم تتجاوز العام فى السجن لكنه لاحظ أن الانقسام قد ضرب هؤلاء الأخيرين من أعضاء الجماعة داخل السجن حتى صاروا فريقين أطلق خفاجى على أحدهما الفريق الثقافى والثانى فريق التنظيم الخاص (!!) كان أكثر قوام الفريق الثقافى من شباب الجماعة المساجين وهؤلاء هم الذين تجرأوا وتحدثوا بصوت مسموع عن «أخطاء الجماعة» التى أودت بهم وغيرهم من الإخوان إلى السجون والمطاردة والاستهداف الأمنى للجماعة، وأبدى هؤلاء الشبان الرغبة فى مناقشة هذه الأخطاء التى تركزت حسب رؤيتهم فى أمرين رئيسيين هما: الأول: عدم وجود رؤية فكرية صلدة أو برامج أيديولوجية واضحة للجماعة حيث لا يوجد سوى الشعارات مع غموض فى المفاهيم والبرامج. والثانى: قضية التنظيم الخاص أو التنظيم السرى المسلح وإيمان عدد كبير من أفراد الجماعة بهذا التنظيم رغم أخطائه. أما الفريق الآخر الذى سماه خفاجى فريق التنظيم الخاص فقد مثله من مساجين الإخوان فى سجن الواحات أعضاء مكتب الإرشاد ومنهم عمر التلمسانى ومحمد حامد أبو النصر وكمال خليفة وحسين كمال الدين وخميس حميدة وصالح أبو رقيق (إثنان من هؤلاء توليا فيما بعد منصب المرشد العام) والسمة العامة التى اتسم بها أفراد هذا الفريق هى أنهم الأكثر احترامًا وإجلالا لأفكار الجماعة وسمعًا وطاعة لقيادتها. ومع مرور الوقت وقدرة فريق الشبان شبه المتمردين على رفع وتيرة الحديث والجدل حول أخطاء الجماعة، زادت الخلافات الفكرية بين الفريقين وتعمقت وتأكدت بعد فشل محاولة هروب عدد من أعضاء الجماعة من سجن الواحات وانكشف للجميع أن الذين وضعوا خطة الهروب وحاولوا تنفيذها كانوا من المساجين الذين سبق لهم الانتماء للتنظيم السرى فى الجماعة وعندما تم الكشف عن هذا قال المتهمون فى محاولة الهروب إن أعضاء مكتب الإرشاد فى السجن كانوا على علم بمحاولة الهرب ورغم كذب ادعائهم إلا أن الأمر أثار مزيدًا من الفرقة والجدل والانقسام بين مساجين الإخوان وهو ما دفع فريق مكتب الإرشاد داخل السجن إلى أن يطلب من فريق الشبان المثقفين على سبيل التهدئة أن يضعوا أبحاثًا يسجلوا فيها رؤاهم واعتراضاتهم حول نهج الجماعة بدلا من إثارة الخلافات والمشكلات. (2) وبادرت قيادات الجماعة فى السجن إلى تشكيل لجان فكرية لإنجاز هذه البحوث وجاء أولها بحثًا بعنوان «الهدف والوسيلة» وهدف البحث الإجابة عن سؤال: «هل نحن (الإخوان) جماعة المسلمين أم جماعة من المسلمين؟!» وانتهى البحث إلى إجابة أن الإخوان جماعة من المسلمين ومعنى هذا أنه لابد أن يكون لهم دولة والدولة لها رئيس وأن خروج الجماعة عليه خطأ شرعى. ولم يمض كثير من الوقت ومساجين الإخوان على هذه الحالة حتى أصدر عبد الناصر قرارا بتأميم قناة السويس ووقع العدوان الثلاثى على مصر عام (1956) أما وقد طال الوطن ورئيسه هذا الخطر فقد بادر عدد ليس بقليل من الشبان المثقفين أو الفريق الثقافى للإخوان فى سجن الواحات إلى تأييد عبد الناصر، بينما ظل باقى أعضاء الجماعة على موقفهم المعارض له وتفجرت الخلافات بعنف بين الفريقين إلى درجة أن قامت إدارة السجن ببناء جدار عازل بين الفريقين، وفى خطوة تالية تم ترحيل فريق المؤيدين إلى حيث الإفراج عنهم، وترحيل الفريق المعارض إلى سجن المحاريق. لقد سجلت هذه الوقائع أول محاولة داخل الجماعة لإجراء مراجعة فكرية حقيقية، هذه المحاولة التى فرضتها الظروف والواقع بالإضافة لإعمال بعض من شباب الجماعة لعقولهم متمردين بذلك على مبدأى السمع والطاعة العمياويين، وبعد رفضهم لفكرة الفرز عن المجتمع المسلم والدولة المصرية، مع ملاحظة أنهم لم يتطرقوا إلى مفاهيم أخرى طرأت على فكر الجماعة فيما بعد وأثارت مزيدًا من الجدل والانقسامات الخطيرة فى بنية الجماعة ومنها على سبيل المثال مفهوم الحاكمية وتفسيره كما ورد فى أدبيات سيد قطب وتبنى أجيال جديدة من الجماعة ومن خارجها لهذا المفهوم القطبى وتفسيره حكمًا غليظًا بالكفر وإخراج المسلمين من الملة، مجتمعات وأفراد، حكام ومحكومين، ولم يمنع هذا رفض هذا الفكر التكفيرى داخل الجماعة نفسها ومن أشخاص لهم مكانتهم فيها مثل المرشد الثانى حسن الهضيبى والشيخ محمد الغزالى ، وخرجت أجيال جديدة من رحم الجماعة فى مصر وفى الخارج تبنت هذا الفكر التكفيرى وحوّلته إلى منهج حركى ضد المجتمعات والدول المسلمة. (3) و من رواد تحويل هذا الفكر التكفيرى إلى منهج حركى عرفنا شكرى مصطفى زعيم «جماعة المسلمين» الذى فرز نفسه وأعضاء جماعته عن المجتمع المصرى وأفتى بكفره واعتزله هو وجماعته فى كهوف الجبال وقد جر وراءه عددًا ليس بقليل من الشبان الغر ، ولما أصدرت وزارة الأوقاف كتيبًا صغيرًا يكشف زيف وبطلان أفكار الجماعة التى اشتهرت إعلاميا باسم التكفير والهجرة وانحرافها عن الإسلام كان جزاء الوزير المسئول عن الهيئة التى أصدرت هذا الكتيب الخطف والقتل برصاصة اخترقت عينه اليسرى إلى رأسه لترديه قتيلا (!!) سجلت هذه الوقائع أول محاولة داخل الجماعة لإجراء مراجعة فكرية، هذه المحاولة التى فرضتها الظروف والواقع بالإضافة لإعمال بعض من شباب الجماعة لعقولهم متمردين بذلك على مبدأى السمع والطاعة العمياويين (4) واستيقظ المجتمع المصرى على هذه الفجيعة فى أحد أيام شهر يوليو من عام 1977 وقد تابع المصريون بقلق لأيام قبلها حكاية خطف الإرهابيين للشيخ حسين الذهبى وزير الأوقاف، إلى أن تم القبض على التنظيم وزعيم التكفيريين لكن بعد قتلهم لضحيتهم الشيخ المسن، وحُكم بالإعدام علي شكرى مصطفى المهندس الزراعى الذى هجر وظيفته وبعض أهله ومجتمعه أو بالأحرى هجر الحياة كما يعيشها المصريون إلى حياة أخرى، صفها بالكآبة أو الظلامية أو صفها كما شئت، وطال حكم الإعدام أيضا ثلاثة من أفراد الجماعة التى شاركت فى الجرم، لكن أحكام الإعدام لم تطل أفكار الجماعة، هذه الأفكار التى تحورت مثل الفيروسات المرضية القاتلة وتحولت إلى منهج للعنف والقتل وترويع خلق الله ينفذه الآن على الأرض فى سيناء وفى الداخل المصرى ورثة شكرى مصطفى من أصحاب الرايات السوداء أو الذين يطلقون على أنفسهم جماعة «السلفية الجهادية فى سيناء» وهذه الجماعة تحديدا ارتكبت خلال السنوات القليلة الماضية عددًا من الجرائم الإرهابية استهدفت الشرطة والجيش المصرى انطلاقًا من مرجعية التكفير القطبية وانتقامًا لما يتصورونه استلابًا للسلطة من الإخوان فى شخص رئيسهم الذى أتاح لهم حرية الحركة بصورة كبيرة بعد أن جلس على كرسى الرئاسة.