مع بداية عودة الحجاج إلى بلدانهم يوم الخميس الماضى تنفس المسئولون السعوديون الصعداء، لقد انتهى موسم الحج للعام 1435 بدون أية مشكلات، فالأمن تحقق بنسبة مائة فى المائة، ولم تشهد المناسك أية حوادث، والحالة الصحية للحجاج بخير، وتمت السيطرة على مخاطر انتشار الإيبولا وفيروس كورونا وغيرهما من الأمراض المعدية الخطيرة، ويمكن للقائمين على أمور الحرم فى مكة وكل من عرفات ومزدلفة ومنى أن يتباهوا بأن كل شىء تم كما هو مخطط له، فقد تم تفويج الحجيج فى المواعيد المحددة صعودا إلى عرفات ثم نزولا إلى مزدلفة ثم إلى منى بسهولة ويسر. الأمر على هذا النحو يبدو طبيعيًا، وكما هو مرسوم فى الخطط والبيانات. لكن الحجاج أنفسهم وهم يذكرون ماذا حدث وماذا لم يحدث تتوافر لديهم قصص حية عن قدر من المعاناة والمشقة ربما كان من الممكن ألا تحدث إن كان هناك قدر أكبر من التنسيق والتدبير والتوعية لجموع الحجيج بالإجراءات الطارئة التى قد يتم اللجوء إليها لاسيما فى أماكن المناسك والأخذ فى الاعتبار أن كبار السن ما فوق الخمسين عاما يشكلون نسبة لا تقل عن 60% من اجمالى الحجيج ولديهم احتياجات صحية خاصة، والسير لمسافات طويلة يؤثر عليهم بل قد يمنعهم من أداء بعض المناسك. وأول ما يلفت النظر هو أن أعداد الحجاج أكبر بكثير من إمكانات مرافق مكة، وأكبر بكثير من المساحة المخصصة للحرم ومن مساحة عرفات ومنى، مما ترتب عليه قدر هائل من معاناة الحجاج، والذين واجه غالبيتهم الساحقة مشكلة مركبة تتعلق بالصلاة بالقرب من الكعبة المشرفة أو حتى فى صحن الحرم نفسه، والذى غالبا ما يتم إغلاقه ويُمنع الدخول إليه قبل الصلوات بحوالى ساعتين أو أكثر، وبالتالى لم يعد أمام الحجيج سوى الصلاة حول الحرم وفى الطرقات وفى المولات التجارية، والكل يُمنى نفسه بأن صلاته صحيحة وأن ثوابها هو نفس ثواب الصلاة فى الحرم ليصل إلى 100 ألف ضعف الصلاة فى مساجد أخرى كما أخبرنا بذلك الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام. معاناة الحاج تبدأ منذ اللحظة الأولى التى يصل فيها الحاج إلى المطارات السعودية، سواء كان مطار جدة أو مطار الملك عبد العزيز بالمدينة المنورة حيث يتأخر ربما عن عمد وصول الشنط والأغراض من الطائرة إلى صالة الوصول، ويصبح على الحاج أن ينتظر ما يقرب من أربع إلى ست ساعات حتى يخرج من صالة الوصول، وبعدها تبدأ مرحلة أخرى من معاناة الوصول إلى الفندق فى مكة، والتى تصل إلى حوالى ثمانى ساعات أخرى يقف فيها الحجيج عدة مرات فى نقاط التفتيش المخصصة للتأكد من صحة جواز السفر وصحة الفيزا، وأخيرا يصل الحاج إلى الفندق بعد ما يقرب من 20 ساعة من السفر، ثم يكون عليه بعد ذلك أن يؤدى العمرة وهو فى قمة الإنهاك والضجر والغضب والشعور بالضعف الشديد أمام إجراءات مطولة لا معنى لها، ويمكن أن تتم بأقل قدر من الوقت وأقل قدر من الخطوات المكررة. والشىء بالشىء يذكر، فإذا كان نظام المطوف يحقق بعض السيطرة على جموع الحجيج، فالمتصور أن إدخال الحاسبات الآلية فى عمل المطوفين وربط الأمر بالحاسب الآلى المركزى لوزارة الداخلية السعودية ان يحقق الانضباط واليسر فى التعامل مع الحجيج، غير أن ما رأيناه على الطبيعة يبدو غير ذلك تماما، فهناك خطوات تتكرر أكثر من مرة، وعملية التحقق تأخذ وقتا طويلا، كما أن هناك تعددا فى نقاط التفتيش على الطرق بين مكة وكل من جدة والمدينة، وكل ذلك يطيل أمد الانتقالات بشكل لا يتناسب إطلاقا مع استخدام الحاسبات الآلية، والمرجو من السلطات السعودية أن تعيد النظر فى بعض الخطوات، وأن تعمل على تطوير نظام المطوف تطويرًا شاملاً ليتناسب مع الجهود الجبارة الأخرى التى تقوم بها الحكومة من أجل توسعة وتطوير منطقة الحرم المكى، والتى تستهدف إتاحة مساحات أوسع للإعاشة ومن ثم استقبال مزيد من الحجيج. وكما هو معروف فإن غالبية الحجيج يؤدون حج التمتع، فبعد أداء العمرة يتحللون تحللا أصغر حتى وقت الحج والصعود إلى منى ثم إلى عرفة، وفى تلك الفترة التى قد تمتد إلى أسبوع كامل أو أكثر يطمح الكثيرون فى أداء الصلوات المفروضة فى الحرم المكى، وهو أمر بدا متعذرا للغالبية العظمى، أما صلاة الجمعة فى الحرم أو بالقرب منه فكانت تحتاج إلى معجزة، وشخصيًا ذهبت إلى الحرم قبل موعد صلاة الجمعة قبل الماضية بساعتين ونصف، وكان الحرم مغلقا، والحشود حوله على امتداد النظر وفى كل الاتجاهات، والبديل الوحيد هو الصلاة تحت أشعة الشمس الحارقة، ولم يكن هناك مفر، وما أدراك ما الصلاة تحت شمس عمودية تخترق كل شىء حولك بما فى ذلك الرخام من أسفل والذى تحول إلى قطعة ساخنة تلهب كل جزء من جسدك، ولا أدرى لماذا لم تفكر السلطات السعودية فى إنشاء مظلات متحركة كتلك التى تحيط بساحة المسجد النبوى بالمدينة المنورة، فإن فعلت ذلك تكون قد أضافت فعليا مساحة كبيرة للصلاة لعدد هائل من الحجيج بعيدا عن الشمس الحارقة، وقللت بذلك نسبة كبيرة من الإصابة بأمراض ضربة الشمس والتهاب وتشقق الأقدام وغيرها. وما إن يصعد الحاج إلى عرفة يكتشف أنه قد بدأ مرحلة ثانية من رحلة الحج أكثر معاناة مما قابله فى مكة، فالخيم المخصصة للحجيج ليست على مستوى لائق، والخدمات فيها فى حالة متواضعة للغاية، الغالب أنه لا توجد رقابة من الجهات المسئولة، والمعاناة الأكبر للحجيج الذين يخصص لهم مخيم محدد أن يتحول مخيمهم إلى سبيل مفتوح لكل العابرين من جنسيات مختلفة، مما يؤثر على هدوء المكان وخصوصيته لمجموعة بعينها ولا يملك الحاج آنذاك أية وسيلة للتعبير عن الاستياء من هذا الموقف، وكل ما يخفف العبء النفسى هو أن عدد ساعات الوقوف بعرفة وزيارة جبل الرحمة ومحاولة الذهاب إلى مسجد نمرة هو ساعات محدودة تنتهى مع غروب الشمس، ولما كان الوقوف بعرفة يمثل مناسبة روحية للتقرب إلى الخالق سبحانه وتعالى بالدعاء وقراءة القرآن، فمن الصعوبة بمكان فى ظروف كهذه أن يخلو المرء لنفسه للوفاء بحد أدنى من متطلبات الدعاء والتقرب إلى الخالق العظيم، ويصبح الهم الأكبر هو كيف يؤمن حاجته الرئيسية ويحافظ على أغراضه، ومع ذلك يظل الأمل كبيرًا فى أن يغفر الله سبحانه وتعالى لمن وقف بعرفة، وأن يعتقهم من النار مصداقًا لحديثه القدسى الذى أشهد فيه الملائكة بالمغفرة لمن جاء حاجا وواقفا بعرفة، وهل هناك شىء أعظم من أن ينال العبد مغفرة ربه سبحانه وتعالى. وتمر الساعات ويصعد المؤذن ليؤذن لصلاة المغرب وتبدأ رحلة التفويج إلى مزدلفة للبقاء فيها جزء من الليل وإقامة صلاتى المغرب والعشاء قصرا وجمع الجمرات المطلوبة لرجم الشيطان على مدى ثلاثة أيام لمن تعجل فى يومين أو أربعة أيام لمن تأخر فى يومين.. وهنا تتجلى الرحمة الإلهية بالحجيج، إذ أعطاهم خيارين إما التعجل وإما التأخر كل حسب ظروف رحلته.. إنها رحمة الاختيار التى تصب دائما فى مصلحة الحاج، وتعطى فسحة من الوقت للحجيج منعا لتدافعهم وتزاحمهم وتيسيرًا لهم غير أن البعض من الحجيج يرون الأمور بعين واحدة ويعتقدون فى وجود تفسير واحد لكل منسك من المناسك، والأنكى أن يثيروا الشك لدى الحجيج الآخرين، مما يدخل البعض فى جدال نهى عنه القرآن والرسول معًا، فالحج الصحيح يكتمل بثلاثة شروط، حددها الخالق بلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج.. أما الجزاء فهى الجنة والنعيم المقيم والمغفرة من الله تعالى. وتأتي النفرة الكبرى من عرفات إلى مزدلفة ثم إلى منى من أجل رمى الجمرات الثلاث، وفيها يرى المرء بعينه كيف سيكون يوم الحشر، فالجموع الهائلة من البشر تتجه صوب هدف محدد، والوصول إلى مزدلفة لم يكن ميسرا، فالأعداد هائلة، أربعة أو خمسة ملايين من البشر يتجهون فى وقت واحد إلى وجهة واحدة، والمساحة المخصصة لا تحتمل مثل هذه الأعداد، وهنا يحدث التدافع فى أوضح صورة، خاصة أن المواقف المخصصة للسيارات لم تكن كافية بالمرة لهذا الكم الرهيب من الحافلات بكل أنواعها، والجنود المكلفون بتوجيه السيارات لم يكن يهمهم سوى أمر واحد، هو أن تتحرك السيارات، ولا يهمهم ما يهم الحجيج، أى الوقوف من أجل أداء صلاتى المغرب والعشاء قصرًا وجمع الجمرات، وبالتالى تحدث المواقف المحرجة، ويشتعل الجدل حول صحة الحجة بأكملها. ويتكرر الأمر نفسه عند الوصول إلى منى التى تغيرت معالمها كثيرًا، خاصة فى ضوء مشروع رمى الجمرات الكبير، والمتعدد الطوابق والاتجاهات، فضلا عن التوسع فى المبانى المخصصة لبعثات الحج لعدد كبير من الدول. والملاحظ أن توسع منى لم يرافقه زيادة فى توعية الحجيج بمسارات الوصول إلى الجمرات، ولا هى الطرق المناسبة للوصول من المخيمات المترامية الأطراف والتى يقع بعضها على بعد يزيد على أربعة كيلومترات عن موقع الجمرات مثل مخيمات المصريين، الذين بات عليهم السير ما يقرب من ثمانية كيلو مترات ذهابا وإيابا من أجل رمى الجمرات، وهى مسافة كبيرة وتؤدى إلى معاناة هائلة للغالبية العظمى من الحجيج. لقد أدت الهواجس الأمنية إلى زيادة فى الإجراءات ذات الطابع الاستثنائى، مثل إغلاق الطرقات حول الحرم، وتعديل المسارات فى منى وحولها، ومع وجود عدد كبير من الجنود المكلفين بتنفيذ الأوامر دون إعداد نفسى يتناسب مع طبيعة الحج والحجاج، زادت نقط الاحتكاك بين الجنود والحجيج سواء داخل الحرم أو حوله، والمتصور أن يخضع هؤلاء الجنود إلى تدريبات نفسية وشرعية معينة قبل الانخراط فى مثل هذه المهمة.. فمن المهين لكثير من الحجاج ألا يردد الجندى سوى كلمة واحدة.. طريق يا حاج.. سيدا يا حاج.. معرفش يا حاج. فمثل تلك الاجابات لا تغنى من جوع ولا تثمر إلا مزيدًا من المعاناة. وتبقى كلمة، فبالرغم من الحاجة إلى ضرورة مراجعة العديد من الخطوات التنظيمية وتطوير نظام المطوف ليصبح أكثر مرونة تيسيرا للحجيج فى قادم الأعوام، فمن الصعوبة بمكان إنكار أو تجاهل الجهد الهائل الذى تقوم به السلطات السعودية من أجل تيسير الحج والعمرة لمن يرغب، فلا ينكر إلا جاحد ومن حج ورأى وسمع ليس بجاحد أبدا.