يثير الفيلم الوثائقى المصرى «عن يهود مصر» .. نهاية رحلة» سيناريو وإخراج أمير رمسيس أكثر من ملاحظة كلها إيجابى وهام، فالعمل هو الجزء الثانى من فيلم «عن يهود مصر» الذى حقق نجاحا كبيرا فى عرضه التجارى فى العام الماضى، والذى اعتبرته أيضا من أفضل أفلام موسم 2013 السينمائى، عاد أمير من جديد بجزء آخر لا يقل أهمية وجمالا عن الجزء الأول، كما أنه عُرض أيضا تجاريا بحفاوة ونجاح واضحين، كانت حفلة الثالثة والنصف التى حضرتها مثلا ممتلئة بالجمهور، ومن بينهم أعداد كبيرة من الأجانب، من حيث الناحية الفنية، فقد جاء «عن يهود مصر .. نهاية رحلة» مفعما بالذكريات والشجن بصورة أكثر تكثيفا من جزئه الأول، بدأ كما لو كان تسجيلا لأوراق من ذاكرة الوطن توشك على السقوط فى خريف عمرها، حكاية 12 سيدة يهودية مصرية مسنّة بقين فى وطنهن، رفضن الهجرة إلى أى مكان، تنتظرن الموت، وتحلمن بأن يحتضن تراب الوطن أجسادهن الهزيلة، بعد أن احتضن من قبل أحلامهن وذكرياتهن القديمة، الفيلم لايتوقف عند ذلك، ولكنه ينبه إلى ضرورة الحفاظ على تراث اليهود المصريين، معابدهم ومنازلهم، إنه تراث يمتلكه كل المصريين، كما أنه عنوان لمصر المتسامحة متعددة الأطياف التى ترفض التعصب، وإذ يفرق الجزء الأول والثانى بوضوح بين اليهودية والصهيونية، وإذ ينحازا إلى حق المواطنة بصرف النظر عن الهوية الدينية، فإن العملين يصنعان حالة واعية وناضجة وجريئة من الأعمال الوثائقية النادرة والمؤثرة شكلًا ومضمونًا. اختار أمير رمسيس أربعة نماذج فقط من اليهوديات المصريات هن: ماجدة شحاتة هارون رئيسة الطائفة اليهودية، وشقيقتها نادية شحاتة هارون، وسيدة يهودية طاعنة فى السن تعيش فى الإسكندرية، وظلت بها حتى بعد وفاة زوجها، وهجرة كل أقاربها، والسيدة لوسى التى يعرفها كل رواد المراكز الثقافية والفنية والسينمائية، تلك المرأة القصيرة التى تتساند على عكازها فى سبيل الوصول إلى عشقها الدائم من أجل مشاهدة الأفلام والمعارض والندوات الثقافية، يتم تضفير ذكريات هؤلاء النساء بحلوها ومرها، مع التركيز على نشاط الطائفة المحدود، ومحاولة الحفاظ على المعابد اليهودية التى لا يتردد عليها أحد تقريبا بسبب قلة عدد اليهود المصريين، يزيد تأثير حديث الذكريات عندما يبدأ الفيلم بجنازة «كارمن وينشتاين»، الرئيسة السابقة للطائفة اليهودية، وينتهى بوفاة نادية شحاتة هارون التى كانت تسرد أمامنا توا ذكرياتها فى الفيلم، وتظل فى الذاكرة كلمات شقيقتها ماجدة وهى تعتبر اليهوديات المصريات المسنات مثل الديناصورات المنقرضة، تقول بصوت مؤثر : «لابد أن آخر ديناصور كان حزينا للغاية فى أيامه الأخيرة». تجربة ماجدة ونادية هى الأكثر ثراء فى الفيلم، والدهما كما هو معروف المحامى والمناضل اليسارى الراحل شحاتة هارون، أحد الكوادر المهمة فى حزب التجمع، وأحد المناصرين الكبار للقضية الفلسطينية، وأحد مناهضى الصهيونية والعنصرية، تتبادل الشقيقتان حديث الماضى، تتكلمان عن حصة الدين التى كانت تفرقهما عن زميلاتهما المسلمات والمسيحيات، تتذكران شقيقتهما الطفلة منى التى ماتت منذ سنوات طويلة، كانت قد أصيبت بمرض سرطان الدم (اللوكيميا)، مجرد طفلة صغيرة تعانى من مرض خطير، حاول والدها السفربها إلى باريس للعلاج، قالوا له إنه يستطيع أن يسافر بشرط ألا يعود مرة أخرى، رفض شحاتة هارون السفر، ماتت ابنته لأنه اختار الوطن، اعتقل هارون يوم الخامس من يونيو 1967 كإجراء احترازى رغم أنه كان عضوا فى الإتحاد الإشتراكى، لم يفرج عنه إلا بعد الحرب بشهور، نشاهد ماجدة ونادية وهما تزوران قبر والدهما الراحل، نسمع جانبا من رسالة بعثها لماجدة وهو فى المعتقل، تتساقط دموع الاثنتين وسط المقابر، لكنهما تتذكران أيضا اللحظات الحلوة وسط صديقات العمر المسلمات والمسيحيات، ذكريات فتيات جميلات مع موضة المينى جيب، تحكى ماجدة ونادية عن احتضان جيرانهما لأسرتهما اليهودية أثناء حرب 1967، كان الناس يفرّقون تماما بين إسرائيل والمصريين اليهود الذى ظلوا فى وطنهم، تعود ماجدة إلى سنوات أقدم فى عهد فؤاد حيث تم تأسيس ناد للشبان اليهود، تفتح سجلا نادرا كانت تمتلكه داية اسمها سمحة سجلت فيه أسماء المواليد الذين جاءوا الحياة على يديها، المسلم بجوار المسيحى واليهودى، كل البيانات تفصيلية وطريفة، يوم الميلاد واسم الآباء والأمهات، مصر بكل مواطنيها بصرف النظر عن اللون أو الجنس و الدين. السيدة العجوز التى تعيش فى الإسكندرية تتذكر أن كل أقاربها هاجروا من مصر عام 1956 سنة العدوان الثلاثى المشؤومة، ولكنها رفضت المغادرة، تقول إنه حتى عندما توفى زوجها، أصرت هى على البقاء، عملت كسكرتيرة فى شركة كورونا، وطوال تلك السنوات لم تستجب لطلب أقاربها بأن تلحق بهم، تتمتع بمحبة كبيرة من جيرانها المسلمين والمسيحيين، لم تشعر أبدا أنها غريبة فى بلدها لأنها يهودية، تقول إنها إذا مرضت يلتف حولها الجيران، ويساعدونها فى الذهاب إلى الطبيب، أما العجوز لوسى فقد أنقذتها ماجدة رئيسة الطائفة بنقلها إلى دار للمسنين، لم تتزوج لوسى، كانت لديها ثروة كبيرة وفيلا فاخرة باعتها للعيش فى شقة متواضعة فى شارع فيصل، كانت تبقى وحيدة جائعة لمدة ثلاثة أيام بدون رعاية أو اهتمام، ولكن لوسى الرائعة التى شاهدناها ما زالت قوية الذاكرة وعاشقة للحياة، تتذكر حبها لتناول الأوزى عند الحاتى، ما زالت تحب السينما، ومازالت تحب الأماكن والبشر وكل أنواع الفنون . تتجول الكاميرا داخل معبد بنتون بالمعادى الذى بنى فى منتصف الثلاثينيات من القرن العشرين، تلفت ماجدة أنظارنا إلى أن هناك 13 معبدا يهوديا فى مصر، منها 11 معبدا دخلت ضمن رعاية هيئة الآثار، بينما يوجد معبدان فقط لا يعتبران من الآثار لعدم مرور 100 عام على إنشائهما، تتحدث ماجدة عن الأسفار النادرة التى توجد فى معبد بنتون، تقول إن هذا التراث ملك كل المصريين، تحلم بمتحف للآثار اليهودية على غرار المتحفين القبطى والإسلامى، تقول إن اليهود المصريين طالبوا بتغيير عبارة «الديانة: إسرائيلى» التى كانت تكتب من قبل حتى لا يختلط الأمر بين اليهودية كدين وبين دولة إسرائيل، تحلم رئيسة الطائفة بأن تفتح المعابد لكل المصريين على اختلاف طوائفهم، بل تقترح أن يحتضن أحد المعابد أمسيات لتلاوة القرآن و تقديم الترانيم المسيحية، أو لعزف الموسيقى العربية أو الكلاسيكية، تريد أن تتحول المعابد المهجورة إلى وسيلة للتقارب بين المصريين. نحن إذن أمام فيلم متماسك يخص الوطن وليس طائفة بعينها، يحاول أن ينقل شهادة ما تبقى من يهود مصر، يفصل تماما بين إسرائيل التى كانت سببا فى مأزق يهود العالم العربى عموما ومصر خصوصا، وبين «المواطنين المصريين اليهود» الذين لا يقلون حبا ولا انتماء لبلدهم، فى الفيلم الذى صوّره محمد عبد الرءوف ووضع موسيقاه الشجية هيثم الخميسى وقامت بالمونتاج المتميزة وسام وجيه الليثى ما يحمل معنى الرثاء لزمن ولعصر قديم، فيه توثيق وشهادة ومشاعر وأحلام، هناك من اختاروا الوطن، وهناك من رفضوا أن يبيعوا ذكرياتهم، وهناك تراث يخص المصريين يجب الحفاظ عليه، تنتهى الرحلة، وربما تنتهى الطائفة، وتبقى الوثيقة على شريط سينما مؤثر لا ينسى، حتما سيكون «عن يهود مصر .. نهاية رحلة» من بين أفضل أفلام 2014، وحتما سينافس أمير رمسيس فى قائمة الأفضل التى أعدها فى نهاية السنة على لقب أفضل مخرج وأفضل سيناريو، شكرا للسينما الجميلة الواعية.