حين تنتشر الحرائق من حولك، فأنت أمام ثلاثة بدائل، إما الانتفاض ومحاولة إطفاء النار بقدر الاستطاعة حتى إخمادها، وإما الهروب إلى حيث الأمان وترك الأمور تتطور كما تشاء، وإما الشعور بقلة الحيلة والاستكانة للمصير المحتوم. أما حين تنتشر الحرائق حول كيان كبير بحجم بلد مهم مثل مصر، فليس أمامها سوى أمر واحد وهو المواجهة وإطفاء الحرائق وبناء حوائط صد مُحكمة، وبالتالى فلا سبيل للهروب ولا أدنى تفكير فى الاستكانة وقلة الحيلة. فالحرائق من حول مصر تبغى الدولة ووجودها، وتستهدف المجتمع وقيمه، وتتطلع إلى كسر الإرادة وإذلال الناس. إنها معركة وجود، لا مناص فيها من الانتصار، لأن البديل هو الضياع والانكسار. وإذا كان هناك بعض مصريين جهلاء وفاقدى الضمير يتحالفون مع أعداء الخارج ويسعون فى خراب البلاد وضياعها، فإن غالبية المصريين هم من الشرفاء والأصلاء الذين لا يعرفون غدرا أو خيانة، لن يتركوا بلدهم ولن يستكينوا للحرائق مهما كان حجمها، وسيقدمون الغالى والنفيس من أجل بقاء بلدهم رمزا وقيادة ودورا وتاريخا وحضارة تضىء الحاضر والمستقبل لنفسها ولكل العالم من حولها. لا مفر إذن من المقاومة بكل ما هو مُتاح، ولا بديل من إنهاض الهمم ومن العمل ومن التماسك ومن التضامن ومن التضحية حتى يبقى الوطن خالدا كما كان، وكما سيظل شامخا بإذن الله تعالى، رغم كيد أعداء الخارج وغدر وخيانة أعداء الداخل. *** الحرائق حولنا عديدة، وكلها متعمدة وخسيسة، تقوم على افتراض أن مصر ما زالت فى مرحلة انتقالية، لم تكتمل فيها مؤسساتها بعد، وفيها كثير من آثار خراب الماضى، وبها استقطاب سياسى، وتعثر اقتصادى وانفلات أخلاقى وتشرذم قيمى، وجماعات تدّعى الدين وتمارس الإرهاب والعنف بكل فجاجة وخسة، وبعض شباب فاقد للبوصلة الصحيحة ويمكن توريطه بكل سهولة ليكون معول هدم لبلده ولنفسه. وتلك بدورها من وجهة نظر مُشعلى الحرائق لحظة مثالية يمكن أن تجر مصر إلى مصير مرعب تفقد فيه وجودها وتماسكها وجيشها وشرطتها، وبالتالى تصبح البلاد مؤهلة لأن تكون نموذجا آخر لدولة منهارة ومستباحة وبلا حاضر وبدون مستقبل. وللأسف الشديد جزء من الافتراض السابق صحيح، فلا يمكن لعاقل لديه بعض فكر سليم أن ينكر وجود ظواهر سلبية عديدة فى المجتمع المصرى، أو يُغفل التحديات الاقتصادية والأمنية الضاربة بجذورها لعقود عديدة مضت، أو يتجاهل وجود فصيل سياسى ودينى فقد وطنيته وباع نفسه للشيطان. أما الشق الآخر من الافتراض بأن مصر أصبحت سهلة المنال وأن بضع ضربات هنا أو هناك وأن إشعال حرائق متعمدة فى الداخل أو عبر الحدود كفيل بإسقاط البلاد، فهو الشق الخائب الذى يُدركه المصريون الشرفاء جيدا ولن يسمحوا بتمريره مهما كانت التضحيات التى سيقدمونها. ودليل هؤلاء الشرفاء هو المخزون الوطنى الذى يسكن فى عقولهم وقلوبهم ونفوسهم، ويحول دون أن يتحولوا إلى فريسة يسهل خداعها وهزيمتها. هذا المخزون من الوطنية المصرية هو الجانب الذى لا تدركه القوى المعادية، وهو الشق الأقوى فى معادلة الصراع الجارية الآن داخل مصر وحولها، وهو حائط الصد الذى تتكسر عليه خطط الأعداء. هذا المخزون من الوطنية هو الذى يفسر لنا تلك الحالة العامة من الإصرار على مواجهة جماعات التطرف والفتنة والتكفير والانتصار عليها. وبالرغم من الحزن الفائق الذى نال من كل المصريين من جراء الحادث الإرهابى الذى راح ضحيته 22 من خيرة الجنود المصريين فى كمين الفرافرة، فإن ثقة المصريين فى جيشهم أو شرطتهم لم تهتز، بل زادت تلك الثقة تقديرا للتضحيات التى يقدمونها من أجل وطنهم وشعبهم. وليس بخاف أن الدعوات والنداءات باتخاذ المزيد من الإجراءات الرادعة ضد الإرهابيين وضد المناطق التى يتحركون منها حتى ولو كانت خارج الحدود المصرية هى دليل حى على تلك الثقة الشعبية فى جيش مصر وفى قدرته على حماية البلاد والعباد. وتلك بدورها أولى بشائر النصر بإذن الله تعالى. إن نظرة سريعة على خريطة مصر وما يجرى حولها يظهر مدى انتشار الحرائق ومدى التهاب الحدود بشكل لم يحدث من قبل لا من حيث التزامن ولا من حيث كثافة التهديدات الآتية عبر تلك الحدود. ويدرك المصريون جيدا أن ليبيا لم تعد دولة بالمعنى المعروف، وباتت مصدر تهديد لكل ما يعرف بالتهديدات الناعمة من تهريب للبشر والأسلحة والمخدرات، وحتى الآن هى تهديدات ناعمة وفى حدود القدرة المصرية على السيطرة والتحكم، ولكن لا يخفى أن هناك جهات تدعم تحويل هذه التهديدات إلى أن تصبح تهديدات صلبة تتعلق بوجود الدولة نفسها، وهو ما يتضح فى حجم السلاح المهرب ونوعيته وعدد الإرهابيين المتمركزين فى الأراضى الليبية والتمويل القادم والاستخبارات الدولية المتورطة فى تنظيم وتمويل وتدريب هؤلاء الإرهابيين، وارتباطهم بمنظمات إرهابية عبر الحدود تحلم بإسقاط الدولة وتحطيم الجيش المصرى. حدود الغرب لم تعد وحدها مصدر تهديد، هناك أيضا حدود الشمال الشرقى. وما المأساة الدامية التى يعيشها الفلسطينيون فى غزة إلا نموذج آخر. وهى المأساة التى تلخص المآل الذى وصلت إليه القضية الفلسطينية نتيجة الانقسام الفلسطينى والصراع السياسى والأيديولوجى بين الفصائل حول سُبل تحقيق الهدف الأسمى وهو الدولة الفلسطينية المستقلة. كما تلخص أيضا الخلل الرهيب فى حالة توازن القوى بين تلك الفصائل مجتمعة أو منفردة من جانب والكيان الإسرائيلى من جانب آخر. وبينما يفتقد المجتمع الدولى مجرد القدرة على اتخاذ موقف متوازن وأخلاقى من حقوق الشعب الفلسطينى ينهال التأييد على الكيان الإسرائيلى بكل أنواعه وأشكاله، وكأن هذا المجتمع الدولى يُرسل الإشارات الواحدة تلو الأخرى لإسرائيل لكى تمارس أكبر درجات التعنت والوحشية والعنصرية تجاه الفلسطينيين وحقوقهم دون أن تتوقع أدنى لوم أو أدنى تنبيه. *** مصر ليست بعيدة عن المأساة الفلسطينية فى غزة، وتدرك جيدا أن ما يجرى فيها الآن هو نتيجة حسابات خاطئة من كلا الطرفين المتصارعين، وهو حريق يُراد له أن يمتد إلى الداخل أو على الأقل يبقى حدودنا الشمالية فى حال توتر دائم، وهو فخ يُراد منه ممارسة المزيد من الضغوط على القيادة المصرية لكى تقبل ما هو عكس مصلحتها العليا ونقيض إرادة شعبها. جزء من الحسابات الخاطئة للإسرائيليين يتصور أن توسيع العمليات البرية والجوية الوحشية وإيقاع أعداد كبيرة من الشهداء الفلسطينيين قد يدفع مصر إلى أن تقبل دور الضامن لهدنة، وأن تضمن أمن إسرائيل وانصياع الفصائل الفلسطينية لمطالب تل أبيب بعدم إطلاق أى صواريخ على الأراضى المحتلة، وأن تتحمل عبء غزة وأهلها وبما يزيح عن كاهل سلطات الاحتلال أدنى مسئولية تجاه الفلسطينيين المحاصرين برا وبحرا فى غزة. حماس من جانبها تقع فى الخطأ ذاته حين تفترض أنها بالتمترس وراء الأبرياء الذين يتساقطون بين شهداء ومصابين، وبرفض التفاوض حول مطالب رفع الحصار، وبقيام دولتى قطر وتركيا بحملة إعلامية وسياسية لتشويه السياسة المصرية والتشكيك فى مصداقيتها والتزامها القومى، أن ذلك قد يدفع المصريين لممارسة الضغوط على حكومتهم لكى يتبنوا مطالب حماس كاملة بما فيها فتح معبر رفح بصورة دائمة أو وضعه تحت وصاية دولية. ومكمن الخطأ فى الافتراضين الإسرائيلى والحمساوى هو أنهما لا يدركان حجم التغير الذى أصاب المجتمع المصرى ككل. وجزء مهم من هذا التغير يتجلى فى أن الإرادة المصرية الرسمية قد تحررت من الضغوط الأمريكية، كما تحررت الإرادة الشعبية من التأثيرات الدعائية التى كانت تبرع فيها قناة قطر ومعها التحركات التركية بمستوياتها المختلفة. وبالتالى توافرت فرصة للدبلوماسية المصرية لكى تتحرك بوازع من الالتزام القومى المعهود والتمسك بالمصالح المصرية واعتبارات الأمن الوطنى دون الالتفات إلى الضغوط التى لم تعد تؤثر فى عزيمة الرأى العام المصرى، والذى بدوره بات يدرك جيدا الفارق بين حقوق الفلسطينيين المشروعة ومن بينها الحق فى حياة كريمة بلا احتلال أو إذلال، وأهداف حركة حماس التى لا تمثل إلا نفسها ولا تراعى حرمة الدماء الفلسطينية ولا يهمها كثيرا وقف العدوان الهمجى الإسرائيلى على المدنيين إلا إذا كان يحقق لها انتصارات ذاتية بحتة. إن تمسك مصر بمبادرتها دون تغيير والتى تهدف إلى حقن دماء الفلسطينيين عبر وقف الاعتداءات الإسرائيلية ثم تتلوها مفاوضات مكثفة تنهى الحصار عبر آليات منتظمة ودائمة وتسمح للفلسطينيين الحصول على كل ما يلزمهم فى حياتهم العادية بعيدا عن الضغوط أو التهديدات والملاحقات والقتل البارد، هو تمسك يجسد حقائق الوضع المصرى الجديد. وإذا كانت حماس أو إسرائيل لا يدركان ذلك فالعيب فيهما وليس فى التحرك المصرى نفسه النبيل والساعى إلى وقف آلة القتل الإسرائيلية، وإفساح المجال أمام تغيير جذرى ومهم فى حياة الفلسطينيين فى غزة، يمهد لاحقا لمصالحة فلسطينية شاملة، ومن ثم تغيير بعض عناصر توازن القوى مع سلطات الاحتلال. *** ثقة القاهرة فى نفسها وثقة المصريين فى قيادتهم وتحركات دبلوماسيتهم الرصينة هى النتيجة الأهم فى كل ما يجرى حولنا. ولذا فمهما قيل أو يقال عن أفكار أو مبادرات قطرية أو تركية تكون بديلا عن التحرك المصرى لا تعدو أن تكون مجرد تحركات دعائية بلهاء تهدف إلى هز ثقة المصريين فى أنفسهم. والواضح أن هذه التحركات فشلت فشلا ذريعا، ولم يعد هناك بديل أمام حماس وتل أبيب سوى التعامل الإيجابى مع المبادرة المصرية. والمؤشرات التى تتوافر لحظة بعد أخرى، خاصة فى ضوء زيارة وزير الخارجية الأمريكى للقاهرة ثم تل أبيب ثم العودة إلى القاهرة، وزيارات بان كى مون أمين عام الأممالمتحدة، ومسئولين أوروبيين ودوليين، وكذلك فى ضوء تصريحات قادة حماس خاصة خالد مشعل رئيس المكتب السياسى لحماس، والتى أشار فيها إلى إمكانية قبول هدنة إنسانية بمناسبة قدوم عيد الفطر المبارك، تعنى أن نهاية العدوان الإسرائيلى باتت قريبة، وأن الفلسطينيين فى غزة أصبحوا قريبين من الحصول على هدنة ثم تهدئة أكثر انضباطا. وإلى حين يصل المتصارعون إلى قرار بقبول وقف إطلاق النار والتفاوض برعاية مصرية على رفع الحصار ووقف الاعتداءات الإسرائيلية وضبط حركة الفصائل الفلسطينية بواسطة سلطة حماس كأمر واقع، ستظل القاهرة متمسكة بمواقفها القومية الداعمة للقضية الفلسطينية من منظور شامل، يُعنى بالحفاظ على الأرواح الفلسطينية وبكرامة الفلسطينيين فى غزة والضفة معا، وبالوحدة الفلسطينية والمفاوضات الجادة من أجل ما هو أكبر من رفع الحصار على قطاع غزة. لقد تغيرت المعادلات فى القاهرة كثيرا رسميا وشعبيا، وبدورها تغيرت المعادلات ما بين مصر وحماس وإسرائيل والولايات المتحدة. ومن لا يعى ذلك أو يتصور أن بقدرته تجاهل توجهات الرأى العام المصرى تجاه نفسه وتجاه البيئة المحيطة به، فعليه الإثم والخطأ. وعليه أيضا أن يتحمل المسئولية عن غبائه وسوء تقديره.