مخطط إعادة تقسيم إقليم الشرق الأوسط الكبير وفى القلب منه المنطقة العربية أقدم بسنوات كثيرة من عام 2006 الذى نشر فيه رالف بيترز مقاله الشهير المعنون ب : «حدود دامية.. ما سوف يكون عليه شرق أوسط أفضل». المقال كان فصلا فى كتاب للمذكور والكتاب حمل عنوان «لا تخل ساحة المعركة» ولم يذع أمر المقال المجتزء من الكتاب إلا بعد نشره فى الموقع الإلكترونى لمجلة القوات المسلحة The armed forces journal وهى مجلة موجهة لضباط الجيش الأمريكى تملكها مجموعة جانيت «Ganet» فى أمريكا.. أما الكاتب نفسه فهو ضابط عسكرى متقاعد وصل فى خدمته إلى درجة نائب رئيس الأركان لشئون الاستخبارات فى وزارة الدفاع الأمريكية وتقاعد من الخدمة عام 1998 على رتبة اللفتانت كولونيل. المدهش أن بيترز بدأ مشروعه فى الكتابة روائيا حيث نشر روايته الأولى «برافو روميو» عام 1981 ومزج فيها ما بين خيال المبدع واحترافية رجل المخابرات العسكرية، وربما تكون هذه التوليفة المكونة من خيال الروائى وواقعية الباحث وانضباطه هى التى قادته فيما بعد لرسم خريطة سياسية جديدة للشرق الأوسط يصنعها عراك وشقاق أهل المنطقة الذين حتما سوف يدخلون فى حروب أهلية وعرقية وطائفية تتفجر فى المنطقة بفعل فاعل هو ما نسميه اليوم فى منطقتنا: «المؤامرة»، والمرجح أن بيترز بجوار الخيال الجامح اعتمد على مشاريع بحثية ودعاوى استعمارية وأحلام صهيونية منشورة فى أبحاث سبقت مشروعه، ومن هذه المشاريع السابقة ما أطلعت عليه بعض النخب العربية وكشفته لوسائل الإعلام العربية، وانتهى أمرها عند هذا الحد فلم نسمع أو نعرف أنه شغل بال السياسيين والحكام العرب أو توقفوا أمامه. المبررات الأخلاقية! وفى الماضى كما فى الحاضر كان شيطان الاستعمار دائمًا ما يغوى المفكرين الاستعماريين ليخلقوا الأسباب والمبررات الدعائية لتشغيل الآلة العسكرية الاستعمارية، وتحريك جيوش أوروبا تجاه الشرق خلال القرن التاسع عشر، والعشرين حدث هذا فى الماضى ويحدث الآن فى الامبراطورية الأمريكية.. وهذه الأسباب الدعائية كانت دائما تتمثل فى بعض من المبررات الأخلاقية والإنسانية. فى القرن ال 19 انطلقت الحملة الاستعمارية نحو الشرق العربى بدعوى همجية العرب وتخلفهم وحاجتهم للرعاية وتم تهيئة ذهنية الشعوب الأوروبية لهذه الفكرة، وفى الأيام الأخيرة استحضرت أمريكا وحلفاؤها الغربيون – حينما قرروا بدء حملتهم على المنطقة انطلاقا من أفغانستانوالعراق – مبررات أخلاقية شبيهة حيث تحدثوا عن إرهاب طالبان وأسلحة دمار شاملة فى العراق البلد الذى يحكمه ديكتاتور مجنون يمثل خطرًا على جيرانه وعلى شعبه الذى يحتاج إلى الديمقراطية .. إلى آخر هذه الأكاذيب التى فضحتها فيما بعد ممارسات الاحتلال من حرب الإبادة وقذف المدنيين باليورانيوم المنضب واغتيال ما يزيد على 500 ألف عراقى نصفهم على الأقل سقط فى بغداد العاصمة هذا بالإضافة لما يزيد على 240 ألف جريح طبقا لإحصائيات تتحدث عن 10 سنوات تالية على بداية الغزو الذى وقع فى 2003 ، هذا غير الفضائح المشينة التى ارتبكها جنود الاحتلال فى سجن أبو غريب وفى غيره من أماكن، ولم يفرق زبانية الاحتلال ومرتزقته فيها بين جندى عراقى محارب أو مقاوم مدنى، رجل أو امرأة أو طفل. ومن المبررات الأخلاقية لغزو العراق إلى دعاوى الحرية ونشر الديمقراطية إبان ثورات الربيع العربى التى سمحت لنوع آخر من الجيوش فى أمريكا والغرب من دبلوماسيين ورجال مخابرات وسياسيين رسميين وغير رسميين، للتدخل فى الشأن العربى الداخلى ودفع الشعوب للثورة بعد تهيئة الأجواء تمامًا لذلك، وبعد تاريخ طويل من المساندة السابقة لحكام المنطقة الديكتاتورية وفى قلب هذه الثورات كان هناك دائما عملاء فى الداخل العربى يعملون بدأب على ملف إثارة النعرات الطائفية والعرقية وإشعال النيران بين الملل والنحل بدعوى حصول تلك الجماعات وهى غالبا أقليات على حقوقها أو رفع الظلم والاضطهاد عنها.. المهم أن يصل المخطط إلى مبتغاه المتمثل فى تفكيك الدول المركزية بعد إضعافها إلى أقصى حد ممكن من خلال النزاعات والحروب الأهلية لتفجيرها ومن ثم تقسيمها وتفتيتها. أكثر من مشروع للبلقنة ونعيد التأكيد أن مشروع تقسيم المنطقة العربية للمرة الثانية بعد المشروع الأول (معاهدة سايكس – بيكو) ليس فقط هو ما كشفت عنه خريطة رالف بيترز، فهناك مشروع الشرق الأوسط الكبير وهناك مخطط يهودى إسرائيلى معروف ب «ينون»، وهناك مشاريع أخرى كلها تهدف لفرض السيطرة الصهيونية تحت الرعاية والعباءة الغربية على مقدرات الشرق الأوسط والمنطقة العربية. لقد التقى الفكر الصهيونى مع فكر المحافظون الجدد واتفقا أن تخرج هذه المشاريع لتدخل حيز التنفيذ خلال الثلاثين عامًا الأخيرة وتسارعت وتيرتها مع حرب الخليج الثانية عام 1991 التى انطلقت بعد شهور من سقوط اامبراطورية السوفيتية وإعلان انتصار الرأسمالية العالمية ورمزها أمريكا فى حرب الحضارات.. وأثبت بذلك يهود العالم أنهم نجحوا فى التسلل إلى العقل الغربى والسيطرة عليه تمامًا وإقناعه بأهمية الوجود الإسرائيلى فى منطقة الشرق الأوسط دائمة الالتهاب، أما المشروع الصهيونى فهو أكبر بكثير من حجم أو مساحة إسرائيل الحالية ليس على مستوى الجغرافيا فقط ولكن على مستوى التأثير والهيمنة، ويكشف بعضًا من هذا الطمع الصهيونى المفكر اليهودى اليسارى إسرائيل شاحاك المعادى للصهيونية حين يقول إن هذه المخططات الاستعمارية تجاه العرب تبناها كل الزعماء والرؤساء الصهاينة فى التاريخ الحديث بداية من (هرتزل ورفاقه) إلى بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل الحالى. والمفكرون والمحللون الاستراتيجيون المحدثون يشبهون الشرق الأوسط بدول البلقان خلال السنوات التى مهدت للحرب العالمية الأولى، وهذا الشبه يتمثل فى أنه أعقاب هذه الحرب الكونية أعيد رسم حدود الدول متعددة الأعراق فى البلقان وفى جزء من أوروبا وأعيد تشكيلها من قبل القوى الخارجية بالتحالف مع قوى معارضة داخلية، واستمرت هذه العملية بعد الحرب لسنوات طويلة وسط اضطرابات وأعمال عنف وصراع دامت لسنوات، وفيما يخص الشرق الأوسط فمنذ سنوات طويلة أيضا هناك من يدعو ويروج لإعادة رسم حدود دول المنطقة بدعوى أن ترسيم الحدود فى اتفاقية سايكس يبيكو لم يكن على أساس عادل. مخطط عوديد ينون ومن مشاريع التقسيم اليهودية الصريحة ما تم الكشف عنه فى شهر فبراير من عام 1982 فى دراسة أنجزها عوديد ينون الكاتب الإسرائيلى وأحد مستشارى مناحم بيجن.. وقدمها لوزارتى الخارجية والدفاع الإسرائيلية وفى هذه الدراسة التى اشتهرت باسم كاتبها «ينون» يرى الأخير أن اتفاق كامب ديفيد مع مصر كان خطيئة ارتكبتها إسرائيل وإن إصلاح ما تسبب فيه هذا الاتفاق من ضرر لإسرائيل يأتى من خلال السعى الحثيث لتجزئة مصر إلى أربع دويلات قبطية فى الشمال وعاصمتها الإسكندرية ونوبية فى الجنوب وعاصمتها أسوان ومسلمة فى الوسط وعاصمتها القاهرة ورابعة تحت النفوذ الإسرائيلى (!!) وتحدث ينون أيضًا عن تقسيم لبنان إلى سبع كانتونات (دويلات صغيرة) والسودان إلى ثلاثة وسوريا إلى أربعة وتفتيت العراق لأن قوته على المدى القصير خطر أكبر من أى خطر على إسرائيل، كما تحدث ينون عن تفتيت الخليج وإذابة الأردن، وفى عام 1985 صدر كتاب عن رئاسة أركان الجيش الإسرائيلى يتضمن المخططات نفسها التى جاءت فى دراسة ينون، وسوف نكتشف لاحقا الشبه الكبير بينها وبين ما احتوته دراسة رالف بيترز الأكثر شهرة. الأقليات (!!) وهذه الدراسات الغربية أو الإسرائيلية التى عملت على رسم جغرافيا جديدة لمنطقة الشرق الأوسط، كانت تعتمد بشكل أساسى على إثارة الأقليات ودفعها للانفصال من خلال نظرية «شد الأطراف ثم بترها» بمعنى مد جسور العلاقات مع الأقليات ثم جذبها خارج النطاق الوطنى ثم تشجيعها على الانفصال.. ونرى إسرائيل وقد طبقت حرفيًا هذه النظرية مع الأكراد فى الطرف الشمالى للعراق والانفصاليين فى الطرف الجنوبى للسودان، وظهر أيضًا بوضوح الدور اليهودى فى ليبيا إبان ثورتها على القذافى.. لماذا ليبيا؟! لأنها كانت قد تغلغلت أكثر مما ينبغى فى القارة السوداء من خلال تنفيذ عدد من الخطط التنموية الصناعية وبدت أنها ترعى مشاريع سياسية لتطوير أفريقيا ودمجها فى وحدة سياسية وهذه بالطبع كلها مشاريع تتعارض مع مصالح إسرائيل وواشنطن ودول الاتحاد الأوروبى، فى القارة السمراء ، ناهيك عن شخص القذافى الذى سبب كثيرًا من المتاعب لأمريكا والغرب وكان لابد من التخلص منه ضمن قائمة الحكام العرب الديكتاتوريين بمساعدة شعوبهم للتخلص منهم، لهذا كان دور إسرائيل واللوبى اليهودى واضح جدًا فى الإجهاز على نظام القذافى وفتح الباب للتدخل العسكرى للناتو فى ليبيا. وطبقًا لمصادر إسرائيلية كانت مراقبة الأممالمتحدة «UN Watch» هى الجهة التى نسقت الأحداث فى جنيف لإخراج ليبيا من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة وطلب التدخل من مجلس الأمن، وكان الظهور الواضح لليهودى هنرى ليفى فى الثورة الليبية، والتنسيق الإسرائيلى مع الناتو كلها مؤشرات على الحضور الإسرائيلى فى هذا الربيع المشئوم على ليبيا. نظام زائف وإذا عدنا على طريقة الفلاش باك إلى اتفاقية التقسيم الأولى الشهيرة «سايكس-بيكو» وقد وصفها «إد بلانش» فى مجلة «ميدل إيست البريطانية» عدد أغسطس – سبتمبر من العام الماضى ب «القنبلة الموقوتة» التى أدت إلى رسم حدود اعتباطية ومصطنعة. مضيفا أن الاتفاقية التى وضعها اثنان من الدبلوماسيين هما سير مارك سايكس الانجليزى وفرانسوا جورج – بيكو الفرنسى عام 1916 عقب هزيمة بريطانيا وفرنسا لألمانيا وتركيا فى الحرب العالمية الأولى أوجدت نظامًا سياسيًا زائفًا فى الشرق الأوسط وكانت السبب فى كثير من الخلافات التى زلزلت المنطقة منذ ذلك الحين، والآن فإن رقعة الشرق الأوسط التى تتآلف من دول صنعتها بريطانيا وفرنسا عندما قامتا بتمزيق أوصال الامبراطورية العثمانية واقتسام الدول التى كانت خاضعة لها، هذه الرقعة آخذة الآن فى التشظى حيث يغرق الإقليم الشرق أوسطى والعربى فى موجة من الثورات والصراعات السياسية التى مزقته بفعل الانقسامات الدينية والقبلية وحولت حدود الدول إلى حدود دموية. العدالة الكاذبة ونعود مجددًا ل «رالف بيترز» وحدوده الدامية التى رسمها فى خريطة ونشرها بعد سنوات ثلاث على غزو أمريكا وحلفائها للعراق واحتلالها لكنه شأن كل المعتنقين لفكر المحافظون الجدد يقول بيترز: «نحن مستمرون فى الحرب لتحقيق الأمن فى مواجهة الإرهاب، ولنشر الديمقراطية ولتأمين الدخول لموارد النفط فى منطقة مكتوب عليها أن تحارب بعضها»، والمثير للعجب أن الذى يدعو للحرب وإراقة الدماء يبحث عن المبررات الأخلاقية الكاذبة مثل أسلافه الاستعماريين فهو نفسه الذى يقول فى مقدمة دراسته: «الحدود الدولية لا تكون أبدًا عادلة بشكل كامل، أو تختلف درجة الظلم التى توقعها هذه الحدود على الجماعات البشرية التى يفرض عليها الانفصال أو الاندماج بموجبها بنفس درجات الاختلاف بين الحرية والقهر وحكم القانون والإرهاب والحرب والسلام، وتعد أكثر الحدود تحكمية وتشوها فى العالم هى تلك القائمة فى أفريقيا والشرق الأوسط، فالحدود الأفريقية التى رسمها الأوروبيون تبعًا لمصالحهم الخاصة تعتبر من أهم أسباب وفاة الملايين من الأفارقة حتى الآن، والحدود «الظالمة» فى الشرق الأوسط تسبب من الأزمات ما يفوق قدرة المنطقة على احتمالها»، ويعزف بيترز النغمة الاستعمارية القديمة عن وصاية الرجل الأبيض الأوروبى على العربى الأدنى منه ثقافيًا واجتماعيًا، مؤكدا على فكرته الأساسية الداعية إلى أن الحدود الحالية تعانى من التشوهات وأنها مصنوعة وليست جامدة ولكن يمكن تغييرها مع الوقت، ويبدأ الكاتب الاستراتيجى ب حدود إسرائيل فيقترح أن تعود إسرائيل إلى حدود ما قبل 1967، مع شىء من المرونة لزوم المستقبل لذلك يضيف عبارة: «مع تغييرات داخلية أساسية لأسباب أمينة مشروعة» (!!) ومن إسرائيل إلى العراق التى ضيعت أمريكا وحلفاؤها فرصة عظيمة (حسب وصفه) حين لم يقسموها إلى 3 دول بعد سقوط بغداد فى أيديهم ويضموا للدولة الكردية المقترحة أكراد تركيا، أما أكراد سوريا وإيران فسوف يركضون من أنفسهم للحاق بهذه الدولة إن استطاعوا، وبعد العراق تأتى باقى دول الشام فيضع بيترز تصورًا لدولة يسميها «فينقيا» والمقصود سوريا التى استدعى بيترز مسمى من أدابير التاريخ لزوم الإغراء بإعادة الامبراطوريات القديمة، ويضيف بيترز: «ترسيم الحدود بشكل أكثر عدالة فى العراق إلى ثلاث مناطق ذات أغلبية سنية فى شكل دولة مقطعة الأوصال، قد تقرر فى النهاية الاتحاد مع سوريا التى سوف تفقد سواحلها طبقًا للخريطة المقترحة لصالح لبنان الكبرى ذات التوجه المتوسطى (فينيقيا التى بعثت من جديد)، أما الجنوب الشيعى للعراق القديم فسيكون أساسًا لدولة عربية شيعية تطوق معظم الخليج الفارسى وسوف تحتفظ الأردن بأراضيها الحالية مع بعض التوسعات باتجاه الجنوب على حساب السعودية التى ستعانى مثل باكستان من التفكيك باعتبارها دولا اصطناعية». مكة والمدينة ويقترح بيترز أن تضم مكة والمدينة فى كيان منفصل أشبه ب «الفاتيكان» ويقول: لنتخيل كم سيصبح العالم الإسلامى أكثر صحية إذا صارت مكة والمدينة محكومتان بمجلس يضم ممثلين للمدارس والحركات الإسلامية الكبرى وتكون رئاسته بالتناوب فى دولة إسلامية تشبه فاتيكانا إسلاميًا(!!) هذا خيال شياطين لكنه بالتأكيد ليس قدر الله.. عمومًا هذا ليس كل ما يخص العرب فى الخريطة الملعونة ففى مقال بيترز كلام آخر عن الكويت ودبى والإمارات العربية المتحدة التى يدخل بعض دولها فى الدول العربية الشيعية التى ستطوق معظم منطقة الخليج الفارسى لتصبح موازية لقوة إيران الشيعية. وبعد.. يمكنك أن تنظر الآن إلى ما يحدث فى سوريا والعراق ونتابع الأخبار ونسأل دون أن تنتظر إجابة: ماذا تحقق من مخطط الاستعمار الجديد؟ وماذا تبقى من العراق وسوريا كدولتين مركزيتين وما مصير باقى الدول التى ورد ذكرها فى الحدود الدامية؟