لعلنى لا أكون متجاوزة عندما أصف الأديبة والشاعرة والروائية الجزائرية أحلام مستغانمى بأنها غنوة حب جزائرية فمن يقرأ كتبها وروايتها يشعر للوهلة الأولى أن هذه المرأة العربية تحب وطنها وبلدها وتؤمن به إيمانًا راسخًا فى قلبها ووجدانها بشكل لا يضاهى ولم أره فى الأدب النسائى.. فهى من بلد المليون شهيد وهى من قسنطية بلد المجاهدين وبلدة صاحبة تاريخ سياسى عتيد وهى من بلد جميلة بوحيرد المجاهدة الجزائرية التى أدهشت العالم ببطولتها وشجاعتها.. فكل ما قرأت لها من روايات ومنها ثلاثية (ذاكرة الجسد - عابر سرير - وفوضى الحواس) وتلتها بالأسود يليق بك وغيرها فأنت أمام روائية عربية من طراز رفيع.. فهى لا تكتب رواية عربية كمعظم الكاتبات النساء حيث يكون الحب فقط هو محور الأساس للرواية. إنما هى صاحبة قضية، قضية وطن وبلد أنهكته الثورات، الثورة الجزائرية بمناضليها ومرتزقيها وأبطالها وقاتليها, وملائكتها وشياطينها، وأنبيائها وسارقيها. فإذا كان الحب هو فضيلة إنسانية لايقدر عليها إلا البشر الأسوياء والأتقياء.. فهذه المشاعر الإنسانية التى تحمل كل التناقضات وكل الجنون وكل النقاء وكل العواطف النبيلة والمستحيلة, فهى لا تخجل ولا تتوارى عندما تقدم هذه المشاعر الإنسانية عارية بكل جرأة بدون حسابات للرجل الشرقى والعربى الذى يلوم المرأة الأديبة التى تقدم المشاعر الإنسانية الراقية فى كل حالاتها وخارج كل قانون ممن هو رومانسى وشهوانى ومتوحش واقتحامى وأنانى وعاشق.. ففى رواية ذاكرة الجسد وفى إحدى الفقرات التى يتحدث فيها البطل الرسام والفنان الذى أفقدته الثورة الجزائرية أحد يديه وعندما يقابل أميرته يقول لها: (أريد أن أحبك هنا فى بيت كجسدك، مرسوم على طراز أندلسى). أريد أن أهرب بك من المدن المعلبة، وأسكن حبك فى بيت يشبهك فى تعاريج أنوثتك العربية، بيت تختفى وراء أقواسه ونقوشه واستداراته ذاكرتى الأولى.. أستنشق جسدك كما أستنشق رائحة الليمون البلدى الأخضر قبل أن ينضج. إن الفنانة أحلام مستغانمى وهى تقدم قصص الحب الجميلة والمستحيلة لا تنسى أن تقدم لنا حبها لوطنها وكم يعانى هذا الوطن من حاكميه وجلاديه وسارقى حلمه.. فتقول عشقا فى موطن رأسها قسنطية البلد الذى شاهد البطل والشهداء.. (عندما يعود بطل قصتها إلى قسنطينة مرة أخرى بعد طول غياب تقول على لسانه: ها هى ذى قسنطينة إذن وها أنا ذا أحمل بيدى الوحيدة حقيبة يد ولوحة تسافر معى سفرها الأخير، بعد خمس وعشرين سنة من الحياة المشتركة. ها هى ذى حنين النسخة الناقصة عن قسنطينة، فى لقاء ليلى مع اللوحة الأصلية.. قسنطينة، أشرعى بابك واحضنينى.. موجعة الغربة.. موجعة هذه العودة.. بارد مطارك، بارد ليلك الجبلى الذى لم يعد يذكرنى. دثرينى يا سيدة الدفء والبرد معا.. أجلِّى بردك قليلا وأجلِّى خيبتى، من مدن الثلج والوحدة.. أم تراها قسنطينة.. تلك الأم المتطرفة العواطف، حبا وكراهية. حنانا وقسوة. هى التى حولتنى بوطأة قدم واحدة على ترابها. إلى ذلك الشاب المرتبك الخجول الذى كنته قبل ثلاثين سنة؟ هذه المدينة سيرتا مدينة نذرت للحب والحروب.. فهنا أضرحة للرومان والوندال والبيزنطيين والفاطميين والحفصيين والعثمانيين .. هذه المدينة تشترى شرفها بالدم تارة والبعد والهجرة تارة أخرى. هذه المدينة الأنثى. وسيدة نساء المدن. إن حب الروائية لبلدها وبلد أجدادها حب يكاد يصل إلى حد الوله والعشق فهى تتغزل فيها شعرا ونثرا وكأنها معشوقتها.. وقد قرأت مئات الروايات والقصص لعديد من الكتاب والكاتبات ولم أستمتع بالقراءة إلا عندما قرأت لهذه الكاتبة فهى لها مذاق خاص من حيث الحدوتة والحبكة والمفردات اللغوية الخاصة بها.. فمثلا فى ثلاث روايات البطل الذى تدور حوله القصة كان خالدًا ذلك شاب الثورة الذى فقد ذراعه فى الحرب وتحول إلى رسام معروف ومشهور فى باريس هو البطل مرة تحبه حبا مستحيلا فهو صديق الوالد ومرة المصور الفوتوغرافى الذى يذهب إلى باريس وهو ايضا من عشاقها فيكتشف الحب الذى جمعه بها وذلك المصور خالد.. وهى فى برجها العالى زوجة أحد أغنياء الثورة كأغنياء الحرب والكل يتعذب بها.. ولولا هذ الحب الذى من غير أمل كما تغنى فريد الأطرش ما كانت أعظم الروايات وما أجمل قصص الحب. ولكن القضية هنا الوطن الذى يتقاسمه كما تقول فى ذاكرة الجسد.. (ها هم كانوا هنا كالعادة. أصحاب البطون المنتفخة والسجائر الكوبية والبدلات التى تلبس على أكثر من وجه أصحاب كل عهد وكل زمن. أصحاب الحقائب الدبلوماسية. وأصحاب المهمات المشبوهة. أصحاب السعادة وأصحاب التعاسة وأصحاب الماضى المجهول.هاهم أولاء هنا. وزراء سابقون ومشاريع وزراء. سرَّاق سابقون ومشاريع سرَّاق. مديرون وصوليون، ووصوليون يبحثون عن إدارة.. مخبرون سابقون.. هاهم هنا.. أصحاب النظريات الثورية والكسب السريع وأصحاب العقول الفارغة والفيلات الشاهقة والمجالس التى يتحدث فيها المفرد بصفة الجمع. أعرفهم وأشفق عليهم) هذة أزمة وطن بأكمله وأزمة عربية حقيقية مستها الروائية باستشراف ووعى وبمشاعر إنسانية عميقة. إن أحلام مستغانمى هى الروائية الأشهر لدى الثقافات الأخرى فقد ترجمت أعمالها للغتين الفرنسية والإنجليزية وتوزع نسخ روايتها بالملايين وكتب عنها عديد من الأسماء المعروفة فى العالم العربى وأخص بالذكر هنا نزار قبانى حيث قال عنها: (روايتها دوختنى, وهى تشبهنى إلى حد التطابق فهى مثلى تهجم على الورقة البيضاء بجمالية لا حد لها.. وشراسة لا حد لها.. وجنون لا حد له.. الرواية قصيدة مكتوبة على كل البحور.. بحر الحب. وبحر الجنس وبحر الأيديولوجية وبحر الثورة الجزائرية بكل مناضليها وأبطالها.. ومرتزقيها وقاتليها.. إن روايات أحلام مستغانمى الكاتبة والشاعرة الجزائرية هى عالم كامل من وطن ما زال يعانى من الوجع والحزن والجاهلية الجزائرية التى آن لها أن تنتهى.. وتعاد لها قوتها وبريقها وفرسانها الثوار الحقيقيون.