لايمكن النظر إلى عودة العلاقات التركية الإسرائيلية بعد قطيعة ظاهرية دامت أربعة أعوام، على أنها مجرد عودة علاقات إلى حالتها الطبيعية بين دولتين تحدث بينهما مشكلة، إنما يجب النظر إلى توقيت عودتها على أنها عودة إلى مسار تحالف إقليمى قديم جديد.. والنظر إلى التنازلات التركية استجابة إلى السياسة الأمريكية التى ترعى هذا التحالف فيما يشبه المثلث متكامل الأضلاع. ليقوم فيه الضلعان التركى والإسرائيلى معا كل بوظيفته ودوره ليصب فى النهاية فى استراتيجية المصالح الأمريكية الأمنية والمستقبلية فى منطقة الشرق الأوسط. فكل من تركيا وإسرائيل أصبحت قاب قوسين أو أدنى من توقيع اتفاق المصالحة بعد حالة جفاء مؤقتة وستستأنف العلاقات الطبيعية بين الجانبين فى كافة المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية والتآمرية على الدول العربية، وعلينا أن نتذكر أنهما ركيزتان أساسيتان من حلفاء الولاياتالمتحدة فى حلف شمال الأطلسى. وأن تركيا كانت أول دولة إسلامية تعترف بإسرائيل فى مايو عام 1949، وأيضا أول دولة إسلامية تنضم لعضوية الحلف الأطلسى، كما أنها أول دولة إسلامية وقعت اتفاقيات للتعاون الأمنى مع إسرائيل ضد الدول العربية والإسلامية، كما أن نشر الحلف الأطلسى لصواريخ «باتريوت» على الأراضى التركية يوفر لإسرائيل كافة المعلومات الأمنية المتعلقة بالتجسس على إيران، سوريا، العراق، وأيضا روسيا، إلى جانب تزايد الصفقات الأمنية التركية الإسرائيلية خلال أعوام القطيعة الدبلوماسية، فأنقرة تسلمت منتصف العام الماضى منظومات متطورة فى مجال الحرب الإلكترونية من إنتاج الصناعات العسكرية الإسرائيلية، تساهم فى تحسين قدرات الطائرات «أيواكس» بهدف رصد كل تحركات دول المنطقة، وخاصة مع الدول المجاورة لحدودها ضمن مشروع «نشر السلام»، وأيضا تزايدت الصادرات الإسرائيلية لتركيا خلال العام الماضى وبلغت 4.9 مليار دولار فى مقابل 3.5 مليار قبل حادث السفينة «مرمرة». فالشهر الماضى شهد رحلات مكوكية ذهابا وإيابا بين أنقرة وتل أبيب وبوتيرة متزايدة وبرعاية ووساطة أمريكية للتعجيل بإعادة العلاقات بين الجانبين إلى عصر ما قبل حادث السفينة «مرمرة» التى قتل فيها الجنود الإسرائيليون تسعة نشطاء سلام أتراك سعوا لكسر الحصار الذى تفرضه إسرائيل على الفلسطينيين بقطاع غزة. ووضع رجب طيب أردوغان رئيس وزراء تركيا شروطا لعودة العلاقات إلا أنه تراجع عنها جميعا بعد أن سقط عنه قناع البطل المدافع عن القضية الفلسطينية، ذلك لأنه موعود من واشنطن بلعب دور ما فى الإجهاز على القضية الفلسطينية فى المستقبل القريب، فقد طالب أردوغان تل أبيب بثلاثة شروط لإعادة العلاقات مع تل أبيب. أولها تقديم تل أبيب اعتذارا مكتوبا يوجه للشعب التركى، وثانيها تعويض أهالى ضحايا «مرمرة» والأهم رفع الحصار عن قطاع غزة. لكن الاعتذار الإسرائيلى لم يصدر وفق الشروط التركية، حيث كان شفهيا، ومن خلال اتصال هاتفى من رئيس الوزراء نتنياهو مع أردوغان وبحضور وبرغبة الرئيس الأمريكى «باراك أوباما» فى آخر يوم من زيارته لإسرائيل فى شهر مارس الماضى، ولم يكن الاعتذار كتابيا، أو موجها للشعب التركى، بل إن وزارة الخارجية الإسرائيلية رفضت نشر مضمونه على موقعها الإلكترونى بعدما طالب الجانب التركى بذلك. ولم يتضمن الاتصال الهاتفى وعدا برفع الحصار عن قطاع غزة، بل تكليفا إسرائليا تركيا للرئيس المعزول محمد مرسى بإدخال المواد وعبور الأفراد عبر المعبر البرى. فى المقابل كان لتل أبيب شروط للمصالحة مع أنقرة وهى منح الحصانة القانونية للإسرائيليين المتورطين فى حادث «مرمرة» حيث أصر بنجاس أفيفى السفير الإسرائيلى السابق لدى أنقرة على حماية الجنود الإسرائيليين من الملاحقة القضائية الدولية. وخضع السلطان العثمانى أردوغان وسارع بإلغاء طلب المحاكمة الدولية للإسرائيليين بعد الاتصال الهاتفى مع نتنياهو، وألغى أرودغان الجانب القضائى فى القضية وحوله إلى مجرد خطأ تقنى من قبل السلطات الإسرائيلية وليس محاكمة مجرمى حرب تستوجب المحاكمة، بعد أن بذلت المنظمات الحقوقية التركية جهودا كبيرة فى هذا المجال، كما ألغى أردوغان إبحار أسطول الحرية الثانى من ميناء أسطنبول بعد أن كان مقررا ذلك. حتى قضية تعويض أهالى الضحايا تراجع أردوغان عن مطالبه بدفع مليون دولار لكل ضحية، وقبل بما أملته عليه إسرائيل بالتعويض وفق القانون التركى الذى ينص على تعويض أى ضحية خلال الحرب بمبلغ سبعين ألف دولار. وفى اتفاق المصالحة الذى ارجأ نتياهو التوقيع عليه الأسبوع الماضى، اقترح وبحسب ما ورد فى صحيفة هاآرتس دفع مبلغ عشرين مليون دولار، وفوض نتنياهو رئيس طاقم المفاوضين بزيادة المبلغ إلى 23 مليون دولار إذا وافقت تركيا على الشروط الإسرائيلية، ألا وهى إقرار قانون غير قابل للإلغاء فى البرلمان التركى يلغى كافة الدعاوى ضد الجنود والضباط الإسرائيليين المتورطين فى حادث «مرمرة»، وكذلك منع الدعاوى المماثلة فى المستقبل، وأيضا تعهد تركى مكتوب بألا تتحرك ضد إسرائيل بالاحتجاج أو الشجب فى المحافل الدولية. إذا، وفى ضوء التراجع التركى عن كافة المطالب، لماذا قبلت بالمصالحة مع إسرائيل، وفى هذا التوقيت؟.. أليس أردوغان هو نفسه ما يروج له بأنه النجم الصاعد والمنقذ للعالم العربى والإسلامى؟. لاشك أنه أسباب قبوله بالمصالحة كان بالدرجة الأولى وضعه الداخلى المتأزم، فحكومة أردوغان وحزبه «العدالة والتنمية» يتولى السلطة منذ عام 2002 وتواجه سياساته الداخلية باحتجاجات عنيفة كانت ذروتها فى «ساحة تقسيم»، بالإضافة إلى أنه يستعد للانتخابات البلدية المقرر لها نهاية مارس والتى تعتبر مسألة حياة أو موت سياسى بالنسبة له ولحزبه، وربما تكون آخر معاركه الانتخابية، إذا قرر الترشح للانتخابات الرئاسية فى شهر يوليو القادم، وستشكل تلك الانتخابات أول مقياس لشعبيته بعد الانتقادات العنيفة لسياساته الخارجية الداعمة للتنظيمات الإسلامية فى الشرق الأوسط من الإخوان المسلمين فى مصر إلى تيارات إسلامية مسلحة تقاتل ضد النظام فى سوريا، هذا بالإضافة إلى قضايا الفساد التى تطارده بشأن الانتخابات البلدية السابقة، حيث قام بتوزيع رشاوى انتخابية ممثلة فى معونات الشتاء، وفحم وبطانيات وأجهزة تدفئة كهربائية مجانية على ناخبيه لشراء الأصوات من أموال خزينة الدولة لا من خزينة الحزب. وثمة سبب آخر لعودة المياه إلى مجاريها بين تركيا وإسرائيل وقد يكون سببا رئيسيا وهو الآمال المشتركة بين الجانبين بإقامة مشاريع إقليمية ضخمة فى مجالى المياه والطاقة، مشروع مياه أنابيب السلام فى جنوب شرق تركيا، ورغبة تركيا فى الحصول على الغاز الطبيعى فى شرق البحر المتوسط من حقل «ليفتان» حيث قال «آلون ليال» مدير عام وزارة الخارجية الإسرائيلى سابقا: إن أردوغان يريد جدا الغاز الإسرائيلى. ومعروف أن الطرفين خططا لنقل الغاز من إسرائيل إلى أوروبا بواسطة أنبوب يمر عبر الأراضى التركية. وعلى الجانب الإسرائيلى، وبعد تحذير وزير خارجية أمريكا نتنياهو بأن عزلة ومقاطعة إسرائيل تتزايد بعد مقاطعات هولندا والدانمارك للبضائع الإسرائيلية المصنعة فى الضفة الغربيةالمحتلة، وجد رئيس الوزراء الإسرائيلى أن إخراج اتفاق المصالحة التركية الإسرائيلية الآن عودة لمسار التحالف الإقليمى القديم، وقيام كل طرف منهما بدوره الوظيفى فى منظومة الاستراتيجية الأمريكية تجاه المنطقة.