وينطلق فكر جماعات العنف المنسوبة للإسلام فى انبعاثاتها الحديثة من فكر قديم ينسب ل «الخوارج» هؤلاء المسلمون الأوائل الذين ظنوا – مخدوعين- أنهم ينصرون دين الله ورسوله فى تكفير المسلم بذنب المعصية.. أما خوارج الطبعات الحديثة ففوق أنهم يكفرون كل من ارتكب معصية وأصر عليها فهم أيضًا يكفّرون حكام أمة الإسلام لأنهم– بحسب زعمهم- لا يحكمون بشرع الله، أما المحكومون فهم أيضا كفار لأنهم رضوا بحكامهم الكفار، وحتى علماء الأمة ليسوا بمنأى عن تهمة الكفر وذلك لعدم تكفيرهم للحكام.. فمن أين أتى التكفيريون بهذا الاستدلال؟!.. أو هل يمكن أن يكون هذا تفكير مسلم عاقل يعيش ظروف طبيعية؟!.. ومن قال إن هذا الفكر تكوّن فى رءوس بشر عاشوا ظروفا طبيعية؟! (1) .. وإذا أردنا أن نوغل فى التاريخ ونرصد التنظيرات المختلفة لجماعات التكفير المنسوبة للإسلام فنحن نحتاج إلى وقت وجهد هائلين لتغطية مساحة زمنية تمتد إلى أصحاب على بن أبى طالب رضى الله عنه حفظة القرآن الكريم الذين انقلبوا على صاحبهم لأنه قبل التحكيم، فحين فعل صاحوا صحيتهم المشهورة: «لا حكم إلا لله» هذه الصيحة التى رآها علىٌّ حقا يراد بها باطل.. أما الذين نطقوا بها فقد كانوا يرون فى أنفسهم جماعة الحق والمؤمنين مقابل آخرين ليسوا على حق ولا إيمان، هؤلاء الذين عرفوا تاريخيا ب «المُحكّمة» الذين رفضوا حكم البغاة (معاوية ومن معه) واعتبروا أن قبول هذا الحكم هو نكوص عن حكم الله الذى وهب البيعة لعلى، وعندما رفض الإمام رضى الله عنه أن ينصاع لدعوتهم الداعية لرفض التحكيم وقتال معاوية درأ للفتنة، انشقوا عنه فأطلق عليهم خصومهم تسمية الخوارج الذين خرجوا على أئمة الحق والعدل، ولما اشتهرت التسمية والتصقت بهم، أشاع الخوارج أن سبب التسمية أنهم خرجوا على أئمة الجور والفسق والضعف (على بن أبى طالب ومن معه) ورأوا أيضًا أن خروجهم هو جهاد فى سبيل الله.. كان هذا ظرفا شديد الوطأة على المسلمين الأوائل وكان ميلاد هذا النوع من التفكير المنحرف فى سياق صراع سياسى بين فريقين، فريق على بن أبى طالب وكلنا يعرف من هو الرجل وما هى مكانته فى الإسلام منذ نشأته الأولى غلامًا فى حجر رسول الله y وحتى لحظاته الأخيرة التى استشهد فيها.. فهل يقبل مسلم يعرف ولو قبس من سيرة على أن تخرج عليه هذه الشرذمة وتكفره بعد واقعة التحكيم؟! هى فتنة لا يعلم حكمتها إلا الله سبحانه وتعالى.. فتنة لم تنته باغتيال الأمام على أو فشل القتلة فى تنفيذ حكمهم في معاوية وتابعه عمرو بن العاص الذى أعانه بخدعة التحكيم ومن ثم اغتصاب الحكم.. لكنهم لم يسكتوا وبعد مرور سنوات وأجيال عديدة وثورات لم تهدأ فى تاريخ دولة بنى أمية التى أسسها معاوية وأورثها لمن بعده من أصلابه، نجح الخوارج فى إسقاط هذه الدولة لتنتهى دورة من دورات الأمة الإسلامية. (2) ولم ينته أو يمت الفكر التكفيرى فى تاريخ المجتمعات الإسلامية بعد اختفاء الخوارج الموجة الأولى من التكفيريين الذين تشظوا طوائف وجماعات، ومضت السنون حتى وصلنا إلى النصف الثانى من ستينيات القرن العشرين، هنا فى مصر حين انكشف ما كان يجرى فى سجون وزنازين تولى أمرها زبانية غير آدميين عرفنا من سيرتهم حمزة البسيونى وصفوت الروبى ورياض إبراهيم وسعد زغلول وغيرهم ممن مارسوا ساديتهم على من ساقه حظه العثر إلى معتقلاتهم ليس الإخوان فقط ولكن اليساريين والشيوعيين وغيرهم من معارضى النظام السياسى القائم آنذاك، وتحت وطأة التعذيب رفض عدد من المعتقلين الإسلاميين إعلان التأييد بالإكراه للحاكم الذى هو عبد الناصر ونظامه انطلاقًا من موقف هذا النظام منهم، ولم يورث العند من الجانبين إلا الكفر.. والتكفير، الكفر بالإنسانية الذى ولّد عند من انتهكت إنسانيتهم عقيدة تكفير جلاديهم ومضى الحكم ينسحب على الجميع، من تكفير رئيس الدولة إلى تكفير الأقران والإخوان الذين يرفضون التكفير وتكفير المجتمع وأفراده لأنهم موالون للحاكم الكافر.. هذه الإشكالية الفكرية الخطيرة هى التى أنتجت جماعة أطلقت على نفسها اسم: «جماعة المسلمين» وأطلق عليها الإعلام الرسمى جماعة التكفير والهجرة وهذه الجماعة بدورها هى التى أنتجت شخصا مثل شكرى أحمد مصطفى المنشق عن الإخوان فى سجون الستينيات وقد كان محبوسا ضمن الخلايا الإخوانية لتنظيم سيد قطب وأفرج عنه الرئيس السادات ليخرج من السجن يمارس نقمته وكراهيته وينجح فى أن يشحن نفوس تابعيه بهذه الكراهية التى تدعو إلى اعتزال المجتمع الكافر الذى سمح بتعذيبه، ليس هذا فقط ولكن أيضا هجرته تأويلا وتفسيرا مغلوطًا للآية الكريمة: چ? ? ? ? ? ?چ وعندما تنامت ظاهرة شكرى مصطفى وانتشر فكره بين بعض الشباب المصرى الذى سعى لجره ورائه ردت عليه وزارة الأوقاف بإصدار كتيب صغير حمل عنوان: «قبسات من هدى الإسلام» قدم هذا الكتيب وزير الأوقاف المرحوم الدكتور محمد حسين الذهبى وجاء فى المقدمة: «يبدو أن فريقًا من المتطرفين الذين يسعون فى الأرض فسادا ولا يريدون لمصر استقرارا قد استغلوا فى هذا الشباب حماس الدين فآتوهم من هذا الجانب وصوروا لهم المجتمع الذى يعيشون فيه بأنه مجتمع كافر تجب مقاومته ولا تجوز معايشته فلجأ منهم من لجأ إلى الثورة والعنف، واعتزل منهم من اعتزل جماعة المسلمين، وآووا إلى المغارات والكهوف ورفض هؤلاء وأولئك المجتمع الذى ينتمون إليه لأنه فى نظرهم مجتمع كافر». وشرح الكتيب من هو المسلم فكذب ادعاءات شكرى وجماعته وفضحهم فكان عقاب الجماعة للشيخ المسن اختطافه وقتله (!!) وانتهت قصة شكرى أحمد مصطفى زعيم تنظيم التكفير والهجرة بالحكم عليه بالإعدام هو واثنين من أعضاء تنظيمه جريرة ما اقترفته أيديهم من آثام وعدوان روع المجتمع المصرى فى آنه. (4) 1977 هو العام الذى نفذ فيه حكم الإعدام فى قتلة الشيخ الذهبى، ولم يمض على هذا التاريخ أربعة أعوام حتى انفجرت فى وجه المصريين جريمة المنصة الشهيرة يوم السادس من أكتوبر 1981 وتم فيها عن قصد وتدبير اغتيال رأس الدولة المصرية الراحل أنور السادات بفتوى من شيخ ضرير هو عمر عبد الرحمن العالم الأزهرى والزعيم الروحى لتنظيم يحمل اسم الجماعة الإسلامية ولم تكن الفتوى هى السند الفقهى الوحيد للجريمة ولكن كانت هناك روافد أخرى مثل كتاب: «الفريضة الغائبة» لصاحبه المهندس عبد السلام فرج هذا غير بقية باقية من أفكار سيد قطب ، هذه الأفكار التى تمردت من قبل على النظام الحاكم فى مصر ووصفته بالجاهلية، أما قتلة السادت فقد رأوا فيه طاغوت انفرد بتوقيع اتفاق إذعان واستسلام مع اليهود الكفرة أعداء الأمة ورآوه أيضا مثل غيرهم من التكفيريين الحاكم الذى لا يحكم بما أنزل الله (!!).. كان اغتيال السادات هو إيذان بانبعاث دورة جديدة من الفكر التكفيرى فى المجتمع المصرى وهذه الدورة هى الأخطر من وجهة نظرى، وامتدادها ينعكس فيما نعانى منه الآن، أما بطلها الرئيسى ونجم هذه الدورة فهو تنظيم الجماعة الإسلامية الذى انفصل وتفرع منه تنظيم الجهاد فى سجون مبارك وذلك فى غضون عام 1983 ومضى أعضاء التنظيم الأخير فى تبنى العنف منهجًا وأسلوبًا لتغيير الحكام والمجتمع. وفى رسالة نشرتها مجلة «المرابطون» الناطقة بلسان الجماعة عدد يوليو 1990 كتب ناجح إبراهيم أحد أبرز أعضاء التنظيم: «لن يرتدع الطغاة عن فتنة المسلمين ولن تتم إزاحتهم عن كراسى الحكم إلا بالقتال»، ومفهوم طبعًا من كان يقصد كاتب الرسالة، وعلى الأرض كانت الجماعة خططت بداية التسعينيات لعدد من الاغتيالات استهدفت فى إحداها وزير الداخلية عبد الحليم موسى ردا على موت علاء محيى الدين الناطق الرسمى للجماعة برصاص الداخلية، لكن منفذى العملية أخطأوا هدفهم وأصابت رصاصاتهم د. رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب وكان ذلك عام 1991 وفى الدفاع عن القتلة وقف محامى المتهمين والجماعة فى قاعة المحكمة يقول: إن الممارسات الإرهابية لنظام الحكم لن تثنى حملة لواء الدعوة الإسلامية عن المضى فى طريقهم (!!).. وللحديث بقية..