السؤال الذى يلح على الباحثين فى الشئون الأمريكية هو : هل القوة الأمريكية تتراجع فى كل عناصرها، أم أن السياسة الأمريكية الخارجية هى التى تشهد مراجعة جذرية وإعادة الاهتمام الجغرافى للحفاظ على المصالح الأمريكية، مع القراءة الجديدة لخريطة القوى فى العالم؟ أى القراءتين لها آثار مختلفة. فإذا كانت القوة الأمريكية فى مجملها تتراجع، فسوف تترك فراغا تملأه قوى أخرى، أما إذا كانت هذه القوة تعيد توزيع انتشارها واهتماماتها وسلم أولوياتها، فإن ذلك يؤثر على توزيع القوة الأخرى العالمية والإقليمية وسوف يعاد تشكيل التحالفات وأولوياتها بما يخدم المصالح الأمريكية أو يناهضها. ومن المهم للقوى الإقليمية أن تفهم جيداً ماذا يحدث للقوة الأمريكية لأن حركة هذه القوة العظمى تؤثر على الجميع، خاصة وأن هذه القوة بدأت فى التبلور منذ نهايات القرن التاسع عشر، ثم دخلت إلى المسارح الأوروبية وشاركت فى صناعة عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى، ثم تصدرت قيادة التحالف الغربى الديمقراطى ضد الشيوعية والفاشية والنازية. هذه القضايا وغيرها تقوم مراكز البحوث الأمريكية والأجنبية بتحليلها، وتجمع على أن أصعب سنوات البيت الأبيض للرئيس أوباما هى هذه المرحلة، حيث ورث أوضاعا مالية واقتصادية بالغة الصعوبة بسبب المغامرات العسكرية للحزب الجمهورى بالمقارنة بعهد الرئيس كلينتون الديمقراطى، ويكاد الباحثون بعد كل هذه الخبرات يضعون خصائص مميزة لسياسات الحزبين، والأهم لممارساتهما عبر العقود الستة الأخيرة. فالمسألة لا تتعلق بمدى كفاءة الرئيس فى نظر كثير من الدراسات بقدر ما تتعلق بصعوبة اختيار البدائل، وأهمها أن واشنطن لم تعد صاحبة الكلمة النهائية فى جميع الملفات وإن ظلت الطرف الأقوى فيها، وزاحمتها أطراف أخرى. معنى ذلك أن العالم بعد أن انتهى من عصر الثنائية القطبية، تحول إلى عصر الهيمنة الأمريكية على الأقل منذ سقوط الاتحاد السوفيتى، ثم بدأت هذه الهيمنة والاحادية القطبية تخلى مكانها للانظام أى الحالة التى يشهد فيها العالم انسياب القوى وكفاحها من أجل تحديد موقفها على الخريطة. بعبارة أخرى، مضى الزمن الذى كانت فيه واشنطن تحدد للدول مكانها وتفرض عليها مواقفها فى مختلف الملفات، وصار بمقدور الدول بما توافر لها من شروط مناسبة لشغل الموقع أن تصبو إليه. هذا المناخ العام الذى سيطر على اهتمام مراكز الأبحاث العالمية لخصه واحد من أبرز مخططى السياسة الخارجية الأقرب إلى فكر فليسوف السياسة الخارجية هنرى كيسنجر، وهو ريتشارد هاس الذى يرأس مؤسسة الشئون الخارجية فى واشنطن، وهى المؤسسة التى تصدر عددا من الدراسات والدوريات أبرزها مجلة الفورين أفيرز، وكان يشغل لسنوات طويلة منصب مدير التخطيط السياسى بوزارة الخارجية الأمريكية. بعد سلسلة من النقاشات الموسعة فى جميع مراكز الأبحاث الأمريكية طرح ريتشارد هاس رؤية فى كتابه الجديد «السياسة الخارجية تبدأ من الداخل». وتقوم فكرته على أن اضطراب البيت من الداخل لا ينتج سياسة خارجية ناجحة وإنما لابد لواشنطن من العناية بالمجتمع الأمريكى ومكوناته الاقتصادية والحضارية والانسانية باعتباره مجتمعاً متعدد الأعراق والأديان والثقافات وأن يتم العمل على الاكتفاء الذاتى من الطاقة التقليدية والبديلة والكف عن الحروب والتدخلات الخارجية التى استنزفت الاهتمام الامريكى خلال العقد الأول من القرن الحالى، وأن تقيم واشنطن مراجعة جذرية لمناطق اهتمامها، لأن الصين تتقدم من الشرق بهدوء، وروسيا تصحو وتصبو إلى دور فى منطقة الشرق الأوسط. وقد أطلق البعض على اللانظام الذى يتشكل عصر تشكل وتعدد الأقطاب بأوزان مختلفة NO Pole era وما اضطرت إليه من استبدال الحرب الباردة بالحرب الهادئة بعد أن تم تصدير حروب الجيل الرابع أى الحرب بين مكونات المجتمعات، ومصر هى الأقرب إلى هذا النموذج. فإذا كانت الدعوة إلى الاهتمام بالداخل الأمريكى ترتفع فى واشنطن فإن ذلك لا يعنى العودة إلى سياسة العزلة والانكماش، ولكن التخلى عن إهدار القوة الأمريكية دون مقابل. وهكذا أعاد هذا التحليل الجدل مرة أخرى حول علاقة السياسة الداخلية بالسياسة الخارجية وهى قضية لها تاريخ طويل. هذا التوجه أزعج أطرافاً إقليمية من بينها إسرائيل، التى صدر عنها الكثير من علامات الضيق والتفكير فى مراجعة العلاقات مع واشنطن لأن إسرائيل تعتقد أنها تقوم بأدوار لم تلق التقدير الكافى من واشنطن، كما ألمحت إسرائيل إلى أنه إذا كانت واشنطن تتراجع إما بحكم ضعف قوتها، أو تغير قلبها، فإن إسرائيل تدبر أمورها وتبحث عن خلفاء قادرين على دعم مشروعها. بقى العالم العربى، ما هو موقفه من هذه التحولات على قمة النظام الدولى. هذا ما نتابعه فى المرات القادمة.